من وهم الحسم إلى الإقرار بالتعافي: تحوّل في وعي قيادة العدو!
في منطق الصراع، لا تُقاس المواقف السياسية بمضمونها فحسب، بل تُقرأ كمؤشرات على تحولات تشمل تبدّلاً في ميزان القوى أو في الإدراك الاستراتيجي لأحد أطراف المواجهة.
من هنا تكتسب تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة أهمية، حين قال إن «بعض أعداء إسرائيل يحاولون ترميم قدراتهم، وإسرائيل تراقب ذلك».
والمسألة ليست في الخبر ذاته، بل في دلالته على ما استقرّ في الوعي “الإسرائيلي” بعد جولات الحرب الأخيرة، بأن محور المقاومة، وخصوصاً في لبنان وإيران، خرج منها أكثر تصميماً على الاستفادة من عِبَرها، والتمسّك بخياراته، وإعادة تنظيم صفوفه للاستعداد لأي تحديات مستقبلية.
لا حاجة إلى انتظار نتنياهو لإدراك أن محور المقاومة بدأ بعد كل حرب ورشة شاملة لإعادة بناء قدراته، سواء عبر استخلاص العِبر الميدانية والتقنية، أو عبر تعزيز منظومته السياسية والشعبية في لبنان وإيران.
لكن كلامه، في توقيته ومضمونه، يكشف أن هذا المسار ليس غائباً عن تقديرات المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل، وأن نتنياهو تعمّد الجهر به بعد اتفاق تبادل الأسرى ووقف الحرب على غزة بهدف مزدوج: إبقاء “الجمهور الإسرائيلي” في حالة «يقظة دائمة»، والإيحاء بأن الخطر الخارجي لا يزال قائماً رغم توقف العمليات العسكرية.
ويتضح من السياق أن تصريح نتنياهو لا يقتصر على البعد الإعلامي، بل يعكس تقديراً داخلياً أنجزته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. فلم يعد خافياً أن تل أبيب باتت تُقر بأن محور المقاومة، وخصوصاً حزب الله، تجاوز آثار الحرب، وماضٍ في ترميم قدراته والاستعداد لجولات مقبلة. ومن هذا المنطلق، تتبدّى عدة خلاصات رئيسية في تفكير صانع القرار “الإسرائيلي”:
أولاً، فشل الرهان على تبدّل ثوابت حزب الله. فكل المتغيرات السياسية والاقتصادية والضغوط الميدانية لم تُفلح في تعديل سلوك المقاومة أو تنازلها عن عقيدتها الدفاعية. بل إن الالتفاف الشعبي حولها ازداد رسوخاً، وتجلّى ذلك بوضوح في مشهد «أجيال السيد»، التجمع الكشفي الأكبر، الذي حمل رسائل رمزية تؤكد أن المجتمع المقاوم أكثر تجذراً مما كان يُظَنّ.
خابت حسابات “إسرائيل” بأن الحكومة اللبنانية قادرة على تحقيق أهداف الحرب بوسائل سياسية واقتصادية
ثانياً، خابت حسابات “إسرائيل” التي افترضت أن الحكومة اللبنانية قادرة على تحقيق أهداف الحرب على المقاومة بوسائل سياسية واقتصادية. فالدعوات العلنية التي وجهها نتنياهو سابقاً إلى الحكومة اللبنانية لـ«التحرك بالأفعال لا بالقرارات» تعكس خيبة إسرائيلية من محدودية أداء الدولة اللبنانية في هذا الشأن، وإدراكاً متزايداً بأن الرهان على الانقسام الداخلي لم يؤتِ ثماره بعد. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني تخلّي إسرائيل عن الرهان، بل يظل محوراً رئيسياً في مخططها الأوسع ضد المقاومة.
ثالثاً، لم تُحقّق الحرب على إيران النتائج الاستراتيجية التي كانت “تل أبيب” تصبو إليها. فإيران، رغم تلقيها ضربات موجعة، استطاعت امتصاصها وتحويلها إلى محفّز لتسريع برامجها الدفاعية والتكنولوجية. ولم تتحقق المفاعيل التي كانت تأملها إسرائيل على محور المقاومة، وفي مقدمته حزب الله.
وتجلّى ذلك في تعافي المقاومة ومواصلة تطوير قدراتها، وهو ما أكده صراحة الشيخ نعيم قاسم باعتباره «التزاماً» لا مجرد توصيف، أي إعلاناً عن جهوزية المقاومة لخوض أي حرب دفاعية جديدة ومنع أي احتلال محتمل من الاستقرار على أرض لبنان. كما إن المقاومة لن تسلم باستمرار احتلال العدو للتلال والوضع القائم في المنطقة الحدودية.
أما الاعتداءات “الإسرائيلية” المستمرة، رغم الخسائر البشرية والمادية التي تُحدثها، فقد فشلت في كسر إرادة المقاومة أو إضعاف مكانتها داخل بيئتها الواسعة في لبنان.
بل على العكس، عزّزت في الوعي الشعبي فكرة أن المعركة أصبحت معركة وعي وكرامة ووجود، لا مجرد مواجهة عسكرية.
تشير هذه المعطيات إلى أن حزب الله ومحور المقاومة تمكّنا من إعادة التموضع داخل معادلة جديدة، تقوم على الجهوزية الميدانية، وتعميق الالتفاف الشعبي، وتعزيز الاستعداد للتحديات المستقبلية السياسية والاقتصادية والنفسية.
في المقابل، يبدو أن “تل أبيب” تدرك حدود قوتها، وتسعى عبر خطاب نتنياهو التحذيري إلى موازنة الخسارة الاستراتيجية بإبقاء “الداخل الإسرائيلي” في حالة تعبئة.
يمكن القول إن اعتراف نتنياهو بأن «العدو يرمم قدراته» يمثل في جوهره إقراراً بخلل في الفرضيات التي حكمت الأداء الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة. فبدلاً من أن تضعف الضربات المقاومة وتفرمل اندفاعها، خرجت أكثر تنظيماً وصلابة. وبدل أن يتحوّل لبنان إلى ساحة ضغط على المقاومة، أصبح نموذجاً لصمود مجتمع يرفض الإخضاع.
أما “إسرائيل”، فباتت أمام مقاومة تتعافى، وجمهور يزداد تماسكاً، وخيارات استراتيجية ثابتة. تلك هي دلالات التصريح الذي أراد به نتنياهو التحذير، فإذا به ينطوي على إقرار بفشل مرحلة ما بعد الحرب في تحقيق أهدافها، وبأن معركة الوعي لم تُحسم بعد، وأنها تميل تدريجياً لمصلحة من استطاع تحويل الحرب إلى درس في الصمود والقدرة على النهوض من الرماد.
علي حيدر – الاخبار