يتضح لنا من القراءة المتأنية لسلوك وممارسات ومنهج المشروع الصهيوني، منذ انعقاد مؤتمره الأولفي بال (سويسرا) عام 1897؛ إنه انضبط لأهدافه التي تأسست على فكرة اغتصاب أرض فلسطين وإبادةونفي شعبها ووجوده، وكان ذلك من خلال العمل على خطين متوازيين: أولهما، بناء مؤسسات الدولةالصهيونية، قبل أن تصبح حقيقة واقعة عام 1948، من خلال الدور الطليعي للوكالة اليهودية وتوفير كلأشكال الدعم والإسناد لتلك المؤسسات التي رعتها بشكل خاص؛ دولة الاستعمار البريطاني في حينه. وثانيهما، توظيف الحد الأقصى من عمليات التخويف والإرهاب المنظم والمجازر الدموية الهادفة إلىدفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسريّة، عن قراهم ومدنهم وضرب وجودهم المادي والمعنوي. وعلىالرغم، مما حققه المشروع الصهيوني من انتصارات كبرى على طريق تحقيق أهدافه، والحفاظ علىامتلاك كل عوامل القوة، إلا أنه مستمرٌ في إعادة صياغة وتكييف بناه وأدواته واستراتيجياته، بما يحفظ لهمنجزاته المُحققة من جانب وَيُؤمِن شروط الاندفاع لتحقيق المزيد من أهدافه الاستعمارية العدوانيةوالتوسعية العنصرية من جانب آخر، وإن بدا نظامه السياسي في السنوات الأخيرة في حالة استعصاءداخلي مُستحكم، لكن ذلك لم يؤثر على “تقدم” مشروعه التاريخي المعادي والنقيض لوجودنا وحقوقنا،ليس الفلسطينية فحسب، بل العربية، وهنا أصل وجوهر المشروع والوجود الصهيوني – الغربي – الإمبريالي في بلادنا.
في مقابل واقع العدو هذا؛ يَحضُر واقعنا العربي والفلسطيني منه بالذات على وجه الخصوص؛ ليُظهر مدى أزمته التاريخيّة المركّبة التي ترافقت مع المشروع السياسي الفلسطيني منذ بدايته، حيث تضافرت معها آلياتٌ داخليّةٌ وخارجيّة، جعلت هذه الأزمة تستمرُّ وتتعمّق وتفعل فعلَها في كامل البِنية السياسيّة والمجتمعيّة الفلسطينيّة؛ إذ لم تنجح كلُّ محاولات الخروج منها، رغم الاعترافات المتواترة بوجودها،والتي كان أبرز تجلياتها المستمرة حتى اللحظة: ضرب أسس المشروع الوطني التحرري بالكامل، وعدم القدرة على صياغة استراتيجية مواجهة وطنية تحشد طاقات الشعب الفلسطيني وتوظفها في إطار الصراع التاريخي مع العدو والمشروع الصهيوني – الإمبريالي، وغياب أو تغييب المؤسسة/الجبهة الوطنية الجامعة، والانقسام السياسي بأبعاده كافة، ورغم ذلك التراجع أو الانكفاء التاريخي في سياق الأزمة الوطنية العامة، لم يخلو المشهد الفلسطيني بالمطلق من رد الفعل الشعبي الفردي والجماعي،على العدو الصهيوني ومشروعه من جهة، وفي رفض واقع الحال الفلسطيني القائم من جهة أخرى؛ أظهر في مضمونه ومستوى عطائه وتضحياته وتأثيراته على مجرى الصراع، بطولة منقطعة النظير؛ ملأت مساحة فلسطين التاريخية وأبعد من ذلك عربيًا وأمميًا، في تأكيد على أن المقاومة والكفاح الوطني واستمرار الاشتباك التاريخي هو ما يوحد الشعب الفلسطيني ويشد من وشائج العلاقة القومية والأممية،باعتبار ذلك؛ خزين ضميره الجمعي وامتداد تجربته الغنيّة ووعاء ذاكرته الحيّة المستمرة في حفظ أسماء وبطولات الشهداء من عطا الزير ومحمد جموم وفؤاد حجازي، مرورًا بعز الدين القسام وفرحان السعدي وأحمد الحمود (أبو جلدة) وعبد القادر الحسيني الحسيني وإبراهيم أبو دية، وامتدادًا إلى جورج حبش وغسان كنفاني وأبو علي إياد وأبو جهاد الوزير وأبو علي مصطفى وفتحي الشقاقي وعمر عوض الله وعمر القاسم… وأبطال كتيبة جنين، من جميل العموري ورعد وعبد الرحمن خازم وعبدالله أبو التين… إلىشهداء عرين الأسود؛ أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط وتامر الكيلاني ووديع الحوح… وصولًا إلى شهداء طوفان الأقصى: حسن نصرالله ومحمد الضيف ونضال عبد العال ومئات آلاف الشهداء على طول عمر الصراع الممتد والمستمر… فهم كانوا وما زالوا: مداد الضمير اليقظ والذاكرة الحيّة والتجربة المديدة المُحمرّة بالدم، وهذا ما يستوجب طرح سؤالنا الذي يجب أن يصم آذان القوى السياسية الفلسطينية، وقوى المقاومة منها بالذات: لماذا في الوقت الذي توحدت فيه الحالة السياسية الصهيونية الداخلية ومجمل حلفها المعادي؛ خلف أهداف حرب الإبادة الجماعية لشعبنا والانقضاض على قضيته وتصفية وجوده، لم يستطع كل نهر الدم المستمر والمعاناة الرهيبة القائمة والخوف الحقيقي على الوجود كما المصير؛ أن يُوقظ فيكم ضمير أن تتوحدوا فقط؛ خلف شعاركم الذي صم آذاننا طويلًا: جبهة المقاومة الفلسطينية الموحدة؟!
د. وسام الفقعاوي – معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية
من سلسلة مقالات بعنوان معركة الوعي