حين تُولد الشعوب من رحم المعاناة، تصبح متحررة من سقف المأساة، وتصوغ مصيرها بأدوات تتجاوز اللغة، وتعيد ترتيب التاريخ من جديد. هكذا يتشكل الوعي الفلسطيني اليوم، بوصفه فعلًا يتجاوز الحصار، وككودٍ كوني يعيد تعريف مفاهيم الوجود، ويُعيد تصميم شكل الفعل البشري في هذا العصر.
في هذه اللحظة العميقة من التكوين، تُبنى القضايا على القدرة على التحكم بالإيقاع الداخلي للزمن. الإنسان الفلسطيني يحمل في روحه نبضًا حافظت عليه الجدران، ويقينًا تعمقت جذوره تحت وقع المنافي. ما يجري هو إعادة هندسة لمعنى الحياة على يد شعب قرر أن يتموضع في قلب الوعي الإنساني، في مركز الجغرافيا والمعنى.
كل فلسطيني يتحرك في العالم يحمل داخله شيفرة تختلف عن النماذج المألوفة. في عينيه تتقاطع المعرفة، والإصرار، والذاكرة، وفي صوته تتردد ذبذبات حضارية تستنهض المعنى. هنا تتحول الأمة من حكاية انتظار إلى شبكة من الوعي المُنتج، تتوزع في العواصم، في المختبرات، في الأسواق، وفي الأكاديميا، لتُعيد تكوين الأمة خارج المسارات التقليدية.
الفعل يتجاوز أدوات الصراع وحدها، ويمتد إلى فهم أعمق لطبيعة الوجود ذاته. كل مشروع حضاري يبدأ بإعادة تعريف الذات. والفلسطيني اليوم يقف على عتبة هذا التعريف الجديد، كمن يُبدع ويبتكر. يُنشئ أدواته، يُعيد تصميم خطابه، ويوظف المعرفة والتقنية والاقتصاد والرمز لتوسيع حدوده خارج المفاهيم القديمة.
حين تُزرع الفكرة في العقل الجمعي بطريقة متقنة، تتحوّل إلى طاقة دائمة الحركة. لهذا يتجاوز الفلسطيني اليوم معادلة المقاومة بالمفهوم الكلاسيكي، ويؤسس لمنظومة من الصمود المتعدد الأبعاد: صمود اقتصادي، صمود معرفي، صمود ثقافي، صمود رمزي. يتحول من حالة دفاع إلى شبكة إنتاج. من كينونة ضحية إلى بنية قادرة على تحريك الموازين.
المسافة بين المخيم والمختبر، بين الحقل والشاشة، بين الطفل الذي يحمل الحجر في نابلس، والباحث الذي يكتب أطروحة في باريس، هي مسافة اندماج في منظومة واحدة. كل عنصر داخل هذه المنظومة يمثل خلية من عقل واحد. هذا العقل يتعلم من الألم ويحوّله إلى نموذج.
تتجلى قوة هذا النموذج حين تتحول فلسطين من موقع جغرافي إلى فكرة تشغيلية، إلى نظام تفكير، إلى تردد خاص يُعيد برمجة مفاهيم العالم نفسه. من هنا تنطلق اللحظة الجديدة، حيث يتحرك الفلسطيني كمن يمتلك أدوات إعادة ترتيب المشهد الدولي.
داخل هذه الهندسة، يصبح الشتات فرصة للبناء ومصدرًا للنفوذ. يتحوّل من جغرافيا ضياع إلى شبكة تأثير. الفلسطيني في أمريكا الجنوبية هو قوة استثمار، وعقد تجاري، وجسر يصل الجنوب بالشرق. والفلسطيني في أوروبا هو عنصر معرفة، يصوغ السياسات من داخل المؤسسات. وفي كل هذا، تستمر الذاكرة في العمل كمعالجٍ خفي، يُشغّل النظام بعمق مستمر.
غزة، بمساحتها الصغيرة، أعادت ترتيب ميزان العالم. من بين الركام انطلقت الترددات الجديدة. تجاوزت كلمات الرثاء، وقدّمت للعالم نموذجًا في الفعل. هناك، تحت الطائرات، ظهرت صورة الإنسان الفلسطيني كما لم تظهر من قبل: حاسمة، حادّة، مبرمجة على الانتصار الداخلي قبل الخارجي. هناك تبلورت بنية السيادة الذاتية، في مواجهة كل محاولات التفكيك.
حين يبدأ الفلسطيني في صياغة معادلاته الخاصة، تتغير وجهة النظر الكونية. تتحول المطالبات إلى مختبر، يُنتج فيه الفلسطيني المعادلات من جديد. هذه المعادلات تُبنى من اللغة، من الاقتصاد، من الصورة، من الأرقام، من الرمز، ومن اللحظة.
بهذا الفهم، تتحول الهوية إلى بنية مرنة، قادرة على التوسع، التكيّف، والتكاثر. هوية تتحدث بلغات متعددة، وتستخدم أدوات متنوعة، لكنها مشدودة إلى نقطة واحدة: مركز الوعي الفلسطيني المستقل عن أي تصنيف خارجي. في هذا المركز، تكمن الحاجة لصناعة النموذج.
حين يُدرك الفرد الفلسطيني أنه نواة لتحول عالمي، يتغير كل شيء. يتحول من متلقٍ للرحمة إلى منتج للمعنى. ومن مستهلك للهوية إلى صانع للمستقبل. تصبح ذاكرته وقودًا لإنتاج جديد، قائم على التصميم. على إعادة توزيع الطاقة داخل المجتمع الفلسطيني، بطريقة تجعل كل فرد نقطة ارتكاز في نظام أكبر.
المرحلة القادمة تتطلب أدوات جديدة. ما ينتظر هذا الشعب هو الانعتاق من الاحتلال وقيادة نمط جديد من الحياة البشرية. فلسطين تُكتب من جديد بكودات يتم تفعيلها في الجامعات، في الأسواق، في الفنون، في الإعلام، في التقنية. هذا الكود يعبر الموجات بلا قيود.
كل من يقرأ هذا النص هو خلية ضمن هذا النظام. العقل الفلسطيني، حين يتحرر من الحاجة للتبرير، يُنتج شبكة لا مركزية من المعنى. هذه الشبكة تُقاس بالفعالية، وتُحدَّد بالتردد، وتُعرَّف بالكثافة.
هنا تبدأ المعركة الحقيقية: بين وعيٍ جديد ونظامٍ قديم. الفلسطيني يُعيد اختراع مفهوم المكان، ويبرمج مفاهيم الاعتراف نفسها.
حين تُصاغ الأمة بهذه الطريقة، تُعاد كتابة المعادلات الكبرى. تُفتح الحقول الجديدة للصراع. التحدي يتجاوز الاحتلال ليصل إلى تفكيك المنطق الاستعماري على يد من كانوا يُظَنّ أنهم الضحية.
في هذا المستوى من الوعي، يتحول النص إلى أداة فعل. وتتحول اللغة إلى موجة. ويصبح القارئ مشاركًا في العملية. هنا تنمو الخلايا. يتولد النموذج. ويتجه التاريخ إلى نقطة يتحكم بها هذا الشعب، الذي قرر أن يُمسك زمام الزمن.
خالد دراوشة – كاتب سياسي