عبر التاريخ، يبرز الشعب الفلسطيني بوصفه رمزًا للكرامة الإنسانية، ومثالًا على قدرة الإنسان على التحول من حالة الانكسار إلى أفق الإبداع والنهضة. عاش الفلسطينيون قرنًا كاملًا في قلب أزماتٍ متتالية، من النكبة إلى الحروب والحصار والاغتراب، إلا أن مسارهم لم يتوقف عند حدود الجرح، بل تحول إلى مسيرة ارتقاء ووعي. إن الفلسطيني لم يعد مجرد فردٍ يواجه قسوة الاحتلال، بل أصبح عقلًا جمعيًا متقدًا، ممتدًا عبر القارات، ومرتبطًا بروابط الهوية والانتماء، يسعى إلى صياغة أدوات نفوذ وسيطرة على الساحة العالمية.

يمتلك الفلسطينيون اليوم واحدة من أعلى نسب التعليم في العالم العربي، إضافة إلى انتشارهم في مختلف القارات، حيث يعملون في مجالات الاقتصاد، السياسة، البحث العلمي، والفنون. هذا الوجود الواسع منحهم قدرة على بناء جسور تأثير بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وربط القضايا الوطنية بالمصالح الاقتصادية والسياسية العالمية. وبفضل هذا التوزيع الجغرافي، صار الفلسطينيون نسيجًا متداخلًا مع مراكز القرار الدولي، وقادرين على صياغة خطاب ينسجم مع القيم العالمية، وفي الوقت ذاته يحمل جذوة النضال والتحرير.

القضية الفلسطينية تمثل اليوم أكثر من كونها صراعًا جغرافيًا على أرض، بل هي مرآة لصراع أوسع بين الحق والهيمنة، بين الحرية والاستعمار. ولأن الفلسطينيين تشرّبوا الوعي العميق بمعنى الكرامة، فقد صاروا حاملين لرسالة أوسع: الدفاع عن الإنسان في وجه الظلم أينما كان، وتجسيد الإرادة الشعبية في التحرر من الاستبداد بأشكاله كافة. إن هذه الرسالة تمنحهم موقعًا فريدًا لقيادة خطاب عالمي يتجاوز حدود فلسطين الجغرافية، ليصبح خطابًا أمميًا متجذرًا في القيم الإنسانية الكبرى.

من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى التجربة الفلسطينية كمسار تطوري للعقل الجمعي، حيث يتحول الوعي من حالة رد الفعل إلى الفعل الخلاق. في البداية، شكلت النكبة صدمةً وجودية، لكنها في عمقها أيقظت وعيًا جديدًا جعل الفلسطيني يرى ذاته ليس كضحية فحسب، بل كفاعل في صياغة التاريخ. هذا الوعي أنتج ثقافة مقاومة متعددة الأبعاد: مقاومة بالسلاح، مقاومة بالكلمة، مقاومة بالعلم، ومقاومة ببناء شبكات النفوذ الاقتصادي والسياسي في الخارج. وهنا يظهر البعد العميق للفكر الفلسطيني المعاصر، إذ لا ينحصر في معركة عسكرية أو سياسية، بل يمتد إلى مشروع حضاري قادر على التأثير في موازين القوى العالمية.إن الأمة الفلسطينية اليوم تملك مقومات التحول إلى “أمة عالمية” بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالأمة العالمية لا تُعرّف فقط بعدد سكانها أو حجم اقتصادها، بل بقدرتها على صياغة أدوات تأثير على القرارات الدولية، وامتلاك شبكات ضغط فعّالة، وإنتاج خطاب أخلاقي يتبناه الملايين حول العالم. والفلسطينيون، بما يحملونه من رصيد أخلاقي مستمد من عدالة قضيتهم، وبما يمتلكونه من حضور بشري في أكثر من 70 دولة، يشكلون قاعدة صلبة لهذا المشروع الأممي.

لقد أفرزت معاناة الشعب الفلسطيني قدرة خاصة على فهم ديناميكيات القوة في العالم. فالذي يعيش تحت الاحتلال يتعلم قراءة موازين القوى بدقة، ويدرك أن المعركة لا تُكسب فقط في ساحات الحرب، بل أيضًا في أروقة السياسة ومراكز الإعلام وأسواق المال. ومن هنا، بدأت النخب الفلسطينية، داخل الوطن وخارجه، في صياغة مشاريع اقتصادية وإعلامية وثقافية تضع فلسطين في قلب المشهد العالمي. هذه المشاريع تمثل البذور الأولى لبناء أدوات سيطرة ونفوذ على المستوى الدولي، تجعل الصوت الفلسطيني حاضرًا في كل محفل، وتربط مصيره بمصير القضايا العادلة للشعوب كافة.على المستوى الفلسفي، يمكن القول إن الفلسطينيين يمثلون تجسيدًا لفكرة “المقاومة الوجودية” التي تحدث عنها فلاسفة مثل جان بول سارتر وفرانتز فانون، والتي ترى أن الإنسان يكتسب حريته الحقيقية حين يواجه القهر بإبداع وإصرار. وهذا ما يميز التجربة الفلسطينية: القدرة على تحويل الألم إلى طاقة فكرية وحضارية، وعلى إعادة صياغة الذات الجمعية لتصبح أكثر وعيًا وقدرة على التأثير. هنا يصبح النضال الفلسطيني ليس مجرد رد فعل على الاحتلال، بل مشروعًا لإعادة تعريف مفاهيم الحرية والسيادة والعدالة في العالم المعاصر.

القضية الفلسطينية، بهذا المعنى، تحمل في طياتها إمكانات هائلة لتوحيد الشعوب المقهورة في مشروع أممي، يربط بين النضال المحلي والنضال العالمي. وإذا استطاع الفلسطينيون تنظيم طاقاتهم وتوحيد خطابهم، فإنهم قادرون على بناء أدوات ضغط حقيقية: شبكات إعلامية قادرة على صياغة الرأي العام، مؤسسات بحثية تقدم رؤى استراتيجية، وتحالفات اقتصادية تربط الأسواق والمصالح بمستقبل فلسطين الحرة. هذه الأدوات لا تشكل فقط وسائل للدفاع عن الحق الفلسطيني، بل أيضًا رافعة لتوسيع دائرة النفوذ على مستوى العالم.

إن التحول من “شعب تحت الاحتلال” إلى “أمة عالمية” ليس مسارًا عاطفيًا، بل عملية استراتيجية تتطلب وضوح الرؤية وإتقان أدوات العمل الدولي. والفلسطينيون يمتلكون اليوم كل العناصر الأساسية: وعي جمعي متجذر في التجربة التاريخية، حضور عالمي واسع، وقضية أخلاقية تحظى بتعاطف الملايين. يبقى التحدي في تحويل هذه العناصر إلى منظومة عمل منسقة قادرة على التأثير في القرارات الكبرى، وعلى صياغة مستقبل تتحقق فيه الحرية الكاملة للشعب الفلسطيني على أرضه.

في النهاية، فإن الأمة الفلسطينية، بحكم معاناتها وتاريخها وامتدادها العالمي، تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. مرحلة تستطيع فيها أن تبني أدوات سيطرة ونفوذ عالمي، لا من أجل الهيمنة، بل من أجل تحقيق العدالة وتحرير الأرض والإنسان. إن هذا الطموح يتطلب وعيًا فلسفيًا يرى في الحرية قيمة كونية، وفي فلسطين قلبًا نابضًا لهذه القيمة. وبذلك، تتحول التجربة الفلسطينية إلى نموذج عالمي، يلهم الشعوب الأخرى في معاركها من أجل التحرر، ويثبت أن الحق، حين يُحمل بعقل واعٍ وإرادة صلبة، قادر على إعادة تشكيل موازين القوى في العالم.

خالد دراوشه: كاتب و باحث