بقلم عضو المنتدى أد. نجيبة مطهر 

المقدمة:

في الوقت الذي تزداد فيه الجرائم الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، تتخذ الأنظمة الغربية – التي طالما تغنت بقيم الحرية وحقوق الإنسان – موقفاً فاضحاً من الانحياز، لا يكتفي بالصمت، بل يصل حد تجريم من يجرؤ على النقد أو التضامن. لقد أصبحت إسرائيل في المخيال السياسي الغربي “تابو” محرّماً، لا يجوز الاقتراب منه، مهما سفك من دم، ومهما انتهك من قانون.

ولذلك اقول 

عندما تمضي دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول أوروبا، في سياسة خطيرة تُمعن من خلالها في تجريم وتحريم كل أشكال النقد أو الرفض لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، بل وتمنح غطاءً سياسياً وأخلاقياً لحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تُنفذ بحق الشعب الفلسطيني، في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث.

لقد أصبح من الملاحظ أن “إسرائيل” تُعامل اليوم في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي ككيان مقدس، لا يُسمح بانتقاده أو حتى مساءلته، مهما ارتكب من فظائع. يُجرَّم من يفضح جرائمه، ويُلاحق من يدعو لمقاطعته أو فضح سياساته. بل إن انتقاد إسرائيل بات يُصنّف على الفور على أنه “معاداة للسامية”، حتى لو جاء على لسان يهود أنفسهم، ناهيك عن الفلسطينيين أو المتضامنين معهم.

في المقابل، تشهد المجتمعات الغربية تحولاً متزايداً في وعي شعوبها، إذ تنامت موجات الغضب الشعبي، وخرجت احتجاجات ضخمة في العواصم الغربية تندد بجرائم الاحتلال وتدعم الحق الفلسطيني المشروع. لكن هذه الأصوات الحرة تُواجَه بإجراءات قمعية غير مسبوقة: طرد من الجامعات، ملاحقات قضائية، إلغاء فعاليات، إغلاق حسابات، وشيطنة إعلامية منظمة، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أنظمة الاستبداد التي طالما ادّعى الغرب مناهضتها.

لقد تحولت “إسرائيل” في المخيال السياسي الغربي إلى “تابو” مفروض بالقوة، ممنوع الاقتراب منه، مهما بلغ من الإجرام والطغيان. وتلك مفارقة عجيبة؛ فالدول التي تدّعي الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الإنسان، تُمارس اليوم أبشع أشكال القمع ضد من يطالبون بتطبيق هذه القيم ذاتها على القضية الفلسطينية.

وفي ظل هذا الانحياز المتطرف، بدأت أصوات رسمية قليلة، لكن لافتة، تخرج عن الخط العام، محذّرة من استمرار الصمت الدولي. ففي تصريح حديث بتاريخ 9 أغسطس 2025، أدانت وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونج نية إسرائيل إعادة احتلال قطاع غزة، ووصفت ذلك بأنه “غير مقبول”، داعية إلى وقف إطلاق النار وضمان إيصال المساعدات الإنسانية، والعودة إلى حل الدولتين باعتباره المدخل الحقيقي للسلام العادل. هذا التصريح، النادر من مسؤول غربي رفيع، يعكس إدراكًا متزايدًا لدى بعض النخب السياسية بأن دعم إسرائيل بشكل مطلق وغير مشروط، أصبح عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا على الغرب نفسه.

لكن التاريخ علمنا أن الغلو لا يدوم. ومثلما خلقت السياسات العنصرية المتطرفة ضد اليهود في أوروبا خلال القرن الماضي موجات من العداء للسامية، فإن المغالاة اليوم في الاتجاه المعاكس، بتحويل “إسرائيل” إلى كيان معصوم من النقد، قد تخلق موجات رفض ومعارضة تتجاوز كل الخطوط، وتؤسس لنمط جديد من الغضب العالمي المتصاعد.

إن ما نشهده اليوم من انتفاضة للرأي العام العالمي، خاصة في أوروبا وأمريكا، ليس حدثًا عابرًا. إنها لحظة تاريخية فارقة، يتغير فيها الوعي، وتُختبر فيها المبادئ. فإما أن يتمسك الغرب بقيمه فعلاً، لا قولًا، ويعيد النظر في انحيازه الأعمى، أو يواصل السقوط في فخ التناقض الأخلاقي الذي يفقده كل مصداقية.

إسرائيل” ليست فوق القانون، ولا فوق الأخلاق، ولا فوق الحقيقة. والسكوت عن جرائمها، بل وتقديسها، لن يخلق سلاماً ولا استقراراً، بل مزيداً من الاحتقان والغضب، وشرعية متزايدة للمقاومة بكل أشكالها.

لقد آن الأوان لكسر هذا التابو المصنوع بعنف القمع وغطرسة القوة، وفتح الباب أمام خطاب حر وشجاع، يقول: إن حياة الفلسطيني ليست أقل قيمة من غيره، وإن المظلومية لا تُبرر الظلم، وإن الاحتلال يبقى احتلالاً، مهما تلحف بأغطية الأخلاق الزائفة.

By adam