التاريخ حالة جمعية
عندما ننظر إلى التاريخ فإننا ننظر إلى حالة إنسانية جمعية لا فردية. فالتاريخ هو مسارات الأمم والجماعات وتحركاتها، بل إننا عفوياً نسمي التاريخ وننسبه للدول فنقول تاريخ فلسطين، تاريخ بلاد الشام، تاريخ العراق، وضمن هذه السياقات نقول الدولة العباسية، الدولة الفاطمية، دولة المماليك… وهكذا، فإننا نتحدث عن جموع بكليتها. ولكن قد يقول قائل بأن الأفراد وحدهم هم من يغيرون التاريخ ويستدل بذلك على أسماء القادة الذين غيروا منعطفات التاريخ، مثل أسماء مؤسسي تلك الممالك، فأجيب على ذلك وأقول: ألم يسمى القائدُ قائداً لأنه يترأس جماعة من الناس؟ فالقائد الذي يغير المنعطفات هو نتاج سياق جمعي موجود، فبالعادة يبرز القادة في داخل الجماعات، والجماعات تصنع القادة بالفرز والغربلة حتى يصلوا إلى القمة فيقودوا الجماعة إلى أهدافها المتعارف عليها بينهم. فالقائد حالة جمعية لا فردية، وهي إحدى إفرازات التاريخ.
الأفراد تبعٌ لجماعاتهم
وإننا عندما نتحدث عن أن التاريخ حالة جمعية فإننا بالضرورة نتحدث عن سياق يفوق الفرد الواحد. فلا تجد الأفراد الذين ينشأون في المجموعات الإنسانية مختلفين عن السياق والمجموع بشكلٍ جوهري، وإنما تجد أفكارهم وعواطفهم وروابطهم الإجتماعية تنمو لديهم بحسب مجموعاتهم وما تتفق عليه. وهذا ما أقصده بأنه سياق يفوق الفرد، فالفرد متأثرٌ بسياقه أكثر من أن يكون مؤثراً إلا إذا ارتقى ليكون من النخبة.
الجغرافيا بعدٌ مشترك بين التاريخ والجماعات
بعد أن أسسنا لفكرتين بسيطتين، الأولى أن التاريخ حالة جمعية لا فردية، والثانية أن الفرد ينشأ في المجموعة متأثراً خاضعاً لسياق المجموعة وليس العكس، فإننا إن أسقطنا هذين البعدين على الواقع نجد أنه يتناسق تناسقاً جغرافياً، لتجد أن الجماعات التي جاءت من التاريخ يمكن الإشارة إليها بحسب الجغرافيا. فيمكننا أن نقول أن المسيحية الكاثوليكية منتشرة في القارة الأمريكية الشمالية وأوروبا، والأرثوذوكسية منتشرة في أوروبا الشرقية، والمذهب الشيعي منتشر في غرب آسيا في دولٍ محددة وبجغرافيا معلومة، وكذلك الحال مع كافة الطوائف. فهناك علاقة متلازمة بين الجماعات الإنسانية والجغرافيا التي تعيش عبر التاريخ.
الجغرافيا حاكمة على طبيعة الجماعات وسياقاتها التاريخية
إن كل جماعة إنسانية تقطن في مكان جغرافي تتكون طباعها ومفاهيمها بحسب البيئة والمكان، فالجغرافيا القاسية بطبيعتها ومناخها وحساسيتها وقلة مواردها تنتج إنساناً يحمل فكراً يمتاز بالصلابة والقسوة والحرمان، والإنسانُ الذي عاش في بيئة جغرافية تمتاز بالأمان وجمال المناخ وكثرة الموارد فإنها تُنتِجُ إنساناً يحمل فكراً أكثر اتساعاً وتقبلاً للتنوع. ومن أقرب الأمثلة التراثية على ذلك هو الفارق بين فقه أهل الجزيرة العربية من الناحية الشرعية، وبين فقه ابن حزم الأندلسي الذي عاش في بلادٍ هي أشبه بالحديقة الغناء، فكان فكر ابن حزم الأندلسي أكثر اتساعاً وتقبلاً وميلاً إلى الفن والجمال. كما أن العوامل البيئية الجغرافية تلعب دوراً في تدافع الأحداث التاريخية، حيث تتميز بعض المناطق عن المناطق الأخرى بأنها لطالما عاشت في صراع وذلك لاستراتيجيتها وحساسيتها كبلاد الشام، ولهذه الحساسية في الموقع آثارعلى المجتمع الشآمي وفكره وبنيته العقلية والنفسية.
استنتاج واسقاط
تقودنا هذه الميزات الأربعة إلى الكثير من النتائج التي تمكننا من دراسة الواقع وفهمه، مثل محاولة فهم المعركة الدائرة بين أهل بلاد الشام الأشداء وبين الأوروبيين الذين جاؤوا متباكين من الظلم الذي وقع عليهم، وتجيبنا هذه الميزات الأربع عن لماذا صمد الفلسطينيون أما الإستعمار إلى اليوم في حين أن أمماً أخرى قد سلمت أشرعتها ووصلت إلى حالة من الصلح الدائم مع مستعمريها!
وأيضاً أريد أن أضع اسقاطاً مهماً فيما يتعلق بالجغرافيا والتاريخ والجماعات الإنسانية، وهو مسألة الأديان والطوائف. فالطوائف وليدة الجغرافيا والمكان، حيث تقضي كل جغرافيا قسراً على جماعاتها الإنسانية بأن تنتمي إلى هذا الدين أو ذلك، أو هذه الطائفة أو تلك. ومن هذا نستنتج أن هناكَ بُعداً تاريخياً تراكمياً لا إرادياً جبرياً في طبيعة توجهات الجماعات الإنسانية على كل بقعة على وجه الأرض وبحسب الجغرافيا، حتى أننا يمكن لنا من هذا البعد أن نشير إلى الحالة الطائفية بأنها مخزون ذاكرة تاريخي مندفع من الماض فوق البقعة الجغرافية.
إننا إذا ما أسقطنا هذا الفهم على كل أفراد الجماعات في منطقة ما، فإن هذا سيقودنا إلى أن ننتبه أن لديناً كما كبيراً من الأفكار المطلقة عن الوجود والإنسان والسياسة، وكلها فوق بقعةٍ جغرافية ما، وتحت مظلة دولة أو منطقة أو إقليم واحد. إن فكرة الحقيقة المطلقة التي تحملها كل طائفة في طياتها هي ثروة فكرية خاصة بها تستخدمها كل طائفة لتصوغ موقفها من الأحداث المعاصرة. ولكن، مرة أخرى، فإن الجغرافيا اليوم قد خرجت لنا بمفهوم الوطنية والانتماء إلى الأرض، وهذا المفهوم يحتّم على أصحاب الوطن الواحد أن تدفع بهم مواقفهم باتجاه واحد وهي المصلحة العامة والأمن والأمان والحرية وححق تقرير المصير لهذا الوطن، فعلى هذا الأساس لا تستطيع طائفة ما أن تُحاكم بحقيقتها المطلقة الطوائف الأخرى، وإلا فإنها تخرج عن سياق الجغرافيا والوطن. ثم إنه أليست هذه هي معضلة الصهيونية في عمقها؟ بأنها خرجت عن سياق الجغرافيا الأوروبية الخاص بها بناءً على حقيقةٍ يرونها مطلقة لديهم ليتخذوها ذريعة لمحاكمة كل من على أرض فلسطين؟!
فالطائفية التي شهدناها في بلادنا من محيطها إلى خليجها لا تختلف عن الصهيونية في الجوهر إذا ما نظرنا إليها من هذا البعد. وعلى هذا الأساس، لا يمكن لطائفة واحدةٌ بعينها أن تكون أساساً للوطنية إذا ما احتوت الجغرافيا في بلادٍ ما عدة طوائف، وإنما مجموع الطوائف كلها في ذلك الوطن الجغرافي يشكل بعداً وطنياً متكاملاً. بهذا الإطار تصبح الطائفة ثروة وطنية تدفع في مصلحة الوطن وأمانه إلى الأمام بحسب خطاباتها الخاصة فيها، وهكذا يصبح الدين وتصبح الطائفة ثروة غنية في المكان، فالشيعي أكثر تأثراً بالحسينِ من غيره، والمسيحي أكثر تأثراً بفداء المسيح من غيره، فتستجيب كل طائفة ودين إلى حماية الأرض والجغرافيا بحسب منطلقاتها التي تملكها ثنايا نصوصها. هكذا يتحول الدين ثروة وطنية قومية لا تقل أهمية عن أي ثروة أخرى يملكها أبناء الوطن.
من هذا المنطلق، لطالما أقول أن أفكار أهل بلاد الشام هي ثروة خاصة لبلادي وإقليمي الذي أنا منه وأنتمي إليه، فانا أدافع عن تشيع اهل بلاد الشام، كما أدافع عن مسيحية بلاد الشام ودروز بلاد الشام أمام كل غريبٍ آتٍ من خارج المنطقة، تماماً كما أدافع عن نفط البلاد وغازها ومائها وترابها من أي اعتداء وسرقة.
آدم السرطاوي – كندا