في مواجهته لطوفان الأقصى على عدة جبهات يتبنّى الكيان الصهيوني نهجاً رئيسياً قوامه المجازر الجماعية في قطاع غزة الفلسطيني والجنوب اللبناني، كاشفاً عن أبشع ممارسات الجرائم الجماعية والإبادة المطلقة لكل جسد حيّ. ويرمي من وراء ذلك إلى استهداف البنية الأساسية للمقاومة ممثلة بحاضنتها الشعبية، مفترضاً أنّ هذا النهج سيؤدي إلى تأليب الحاضنات الشعبية ضد خيار المقاومة، عبر رفع الكلفة المدنية والبشريّة من جهة، ودفع قيادة المقاومة إلى التخلّي عن خياراتها، من خلال الانتقام من بيئاتها الحاضنة من الجهة الثانية.
كما أنّ استعراض مشاهد المجازر الجماعية اليومية في غزة ومثيلاتها في جنوب لبنان، يقدم دليلاً قاطعاً على هذا النهج الدموي الإجرامي والذي يمكن وصفه بنهج “ضرب اللحم”، أي استهداف كل جسد حيّ من أجساد أبناء الحاضنات الشعبية للمقاومات، بغض النظر عن الجنس والعمر والدين، استهداف كل لحم حي تطاله يد الصهيوني الغاشمة!
على نقيض افتراضات الكيان ومخيّلته، فإنّ هذا النهج الدموي سيؤدي حتماً إلى معكوس النتائج المرجوة منه، فأمام هذا النهج سيتفاقم الغضب والحقد في بيئات المقاومة والتي ستطالب قيادتها بالمزيد من التمترس خلف خياراتها، ومن الجهة الثانية سيدفع هذا النهج قادة المقاومة إلى المزيد من الإيمان بضرورة ردع وزجر الكيان الصهيوني كشرط ضروري لا بديل عنه لحماية المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم. وعلى النطاق الأوسع يساهم هذا النهج في تعميق عزلة الكيان الدولية والشعبية على مستوى العالم، وفي جميع الأصعدة الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية والسياسية والمهنيّة والمؤسساتيّة وغيرها.
في مقابل هذا النهج، ورغم قناعة المقاومة بأنّه لا يوجد مدني في الكيان، فجميعهم مستوطنون وغالبيتهم مسلّحون خدموا في الجيش ويمارسون التحريض المستمر على قتل العرب والمسلمين، إلّا أنّها طوال الفترة الماضية نأت بنفسها عن استهداف العزّل من المستوطنين في الكيان، ورغم كلفة ذلك من الناحية المعلوماتية والعملياتية والعسكرية، رفضت المقاومة الانزلاق نحو نهج “ضرب اللحم” وحافظت على نهجها في “ضرب الركب”. ويركّز نهج “ضرب الركب” على استهداف المفاصل الحيوية والاستراتيجية التي يرتكز إليها وجود الكيان واستمراريّته وفعاليّته، ومنها الجيش باعتباره الركيزة الأساسية، بالإضافة لبنك أهداف واسع من المنشآت العسكرية والأمنية والاستراتيجية والاقتصاديّة، والتي يمكن تشبيهها بالركب بالنسبة لجسد الكيان، والتي عند لحظة معينّة من استمرار الاستهداف ستنهار، فينهار فوقها الكيان.
ينسجم نهج “ضرب الركب” مع إطار المعركة الحالي كما تعرّفه وتديره قوى المقاومة، والموصوف بحرب الاستنزاف أو تسجيل النقاط، ولكنّه يمثّل شكلاً أكثر إبداعاً وأكثر تخصيصاً من أشكال حروب الاستنزاف كما عرفها التاريخ الحديث، ويعبّر تبنّي هذا النهج عن إدراك المقاومة العميق لطبيعة الكيان ومفاصله الرئيسية ونقاط ضعفه الجوهريّة.
تكشف المقارنة بين النهجين عن انعدام الرؤية الاستراتيجية لدى الكيان في إدارته لعملياته العسكرية وتبنيه لنهج وسياسة تؤدي إلى نتائج معكوسة دائماً، في مقابل رؤية استراتيجية متماسكة وحكيمة ومجدية تتبناها المقاومة وتلتزم بها رغم استشهاد عدد كبير من قياداتها العسكرية والسياسية.
ولكن وبعد أكثر من عام كامل من الطوفان، يحافظ الكيان على نهجه المستمر منذ بداية المعركة، في إطار عمل قائم أساساً على الهروب المستمر إلى الأمام، فيما يبدو أنّها سياسة انتحاريّة تهدف إلى إلحاق الضرر بالعدو أكثر مما تهدف إلى حماية وتأمين مصالح الكيان، وهو بهذا يزداد دمويّة وعنجهيّة وتقتيلاً. وأمام كل ذلك، هل ستبقى سواعد المقاومة مقيّدة باستهداف المنشآت الحيوية والاستراتيجية وضرب الركب، أم أننا سنشهد تصعيداً نوعياً جديداً من قبل قوى المحور، قد يتخطّى الكثير من الخطوط التي يفترض الكيان أنّ المحور لن يتخطّاها؟ هل يمكن قراءة إعلان الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً لحزب الله باعتباره تصريحاً عن بدء هذا التصعيد؟ هل نحن أمام انعطافة جذرية في نهج المحور العسكري؟ هذا ما ستجيب عنه مجريات الميدان في قادم الأيّام.
في نهاية منشور له على قناته عبر تيليجرام، يوم 29/10/2024، يقول ألكسندر دوغين: “لكن في الحروب الحديثة، الوقت والسرعة والحسم هي كل شيء، الصهاينة يتحركون بسرعة وبشكل استباقي وبجرأة كبيرة، ويحققون انتصارات، هكذا نوّد أن ننتصر على الأراضي الروسيّة في أوكرانيا، لنراقب ذلك!”
يبدو من منشوره أنّ روسيا أيضاً أمام انعطافة جذرية في نهجها العسكري … فلنبق أعيننا مفتوحة ونراقب بعناية!
علي حمدالله