قراءة ذاتية في خطاب سماحة السيد حسن نصر الله بعد المجزرتين الإرهابيتين اللتين ارتكبهما العدو الإسرائيلي بتفجير أجهزة البيجر والهواتف اللاسلكية في الضاحية الجنوبية وعدد من المناطق الأخرى في لبنان.
ما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أخرى في لبنان من تفجير أجهزة “البيجر” والهواتف اللاسلكية يومي الثلاثاء والأربعاء: 17 ـــ 18 /09/ 2024 م. لم يكن كما سبقه من محطات مؤلمة وضريبة غالية مستحقة الدفع للحفاظ على الهوية والنهج المقاوم، بل كانت الضربة الأكثر إيلاماً والأقسى وقعاً والأشد خطورة مما قد يخطر على الذهن، فاستشهاد العشرات، وإصابة آلاف آخرين بجراح خطيرة ومتفاوتة الشدة في توقيت واحد يربك دولاً كبرى، إلا أنه لم يفقد حزب الله توازنه والحفاظ على توزعه القتالي المعتمد منذ الثامن من تشرين الأول عام 2023م. على الرغم من ضغط الصدمة وهول المفاجأة وارتداداتها القاسية على لبنان بكليته، ولا شك أن الارتقاء الفطري إلى مستوى المسؤولية لدى غالبية اللبنانيين قد خفف كثيراً من تداعيات المجزرتين اللتين أقدم عليهما الكيان الصهيوني عن سابق قصد وترصد وإصرار على قتل الآلاف في دقيقتين أو أقل، وهذا يعني أن تجاوز الأثر النفسي والمعنوي الذي خلفه التوحش الصهيو ــ أمريكي لم يكن سهلاً، بل ذهب أكثر الناس حباً للمقاومة وبيئتها إلى توقع الأسوأ من الارتدادات السلبية على الروح المعنوية لدى المقاومين وأهليهم جراء العدد الكبير من الإصابات، فضلاً عن نوعية الإجرام المتعمد في سابقة لا نظير لها في التاريخ البشري على امتداده الطويل، وقد جاءت إطلالة سماحة السيد حسن نصر الله في تمام الخامسة من عصر يوم الخميس 19/9/2024م. لتمسح بكل حب وحنان ومشاعر إنسانية نبيلة وراقية على جراح المصابين وأهليهم، بل لتبلسم جراحات كل عشاق المقاومة وأنصار الحق والإنسانية.
وحقيقة بعد خطاب سماحة السيد تغيّرت الصورة الكلية للوضع الذي أفرزه الإجرام غير المسبوق والعدد الكبير من الإصابات، كأن سماحة السيد دخل إلى أعماق الجميع فرداً فرداً وشرح لهم تفاصيل القادم من الأيام، فتحول القلق والاضطراب إلى سكينة ويقين بحتمية الرد من حيث يحتسب المعتدي ومن حيث لا يحتسب، وهدأت هواجس عشاق المقاومة البعيدين بعض الشيء عن مسارح العمليات القتالية واطمأنت نفوسهم إلى أن المقاومين متجذرون في مواقعهم القتالية، ويبلون البلاء الأحسن، والجميع بانتظار صدور الأوامر لرد كيد المعتدي إلى نحره، ومن المفيد هنا الإشارة إلى عدد من العناوين الرئيسة والجوانب المهمة التي تضمنها خطاب سماحة سيد المنابر، والتي أثمرت للتو بعد الخطاب مباشرة، ومنها:
- ترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية التي تجلت في أبهى صورها بعد ارتكاب المجزرتين مباشرة، فالجميع تعالى عن الأحقاد والتخندقات السياسية والمذهبية، وغدا العنوان الأبرز لتوجه الجميع محصوراً في الانخراط المباشر لتخفيف آلام المصابين وتقديم الإسعافات المطلوبة لهم، وهذا ما ظهرت قيمته التي لا توصف في خطاب سماحة السيد وتوجهه بالشكر للجميع دونما استثناء، وإذا صح القول: “رب ضارة نافعة” فإن هذه النتيجة التي أسفرت عنها المجزرتان كفيلة وحدها بإدخال العديد من التعديلات الجوهرية على اللوحة الميدانية والاشتباك المحتدم مع العدو القاتل والمجرم، وما الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية اللبنانية عبد الله بو حبيب في مجلس الأمن الدولي إلا الشاهد الأبلغ على صحة هذا الاستنتاج.
- إبطال الأهداف العدوانية: ما يميز أحاديث سماحة السيد نصر الله أنها تخاطب العقل وتقنعه بالحجة والمنطق والبرهان، ووقفة موضوعية مع الرؤية والتفسير اللذين قدمهما سماحة السيد للأهداف من ارتكاب هذه المجازر غير المسبوقة تؤكد دقة ما قدمه وأوضحه، فعندما يتم تفجير آلاف الأجهزة في غضون دقيقة واحدة فهذا يعني أن من قام بهذه الجريمة يستهدف قتل الآلاف الذين يحملون هذه الأجهزة، وبما أن أولئك لا يعيشون في جزيرة معزولة، بل هم ضمن أوساطهم الاجتماعية المتعددة، فقد يكون أي منهم في المتجر أو الصيدلية أو السوبرماركت أو السيارة أو المشفى أو في السيارة مع زملائه وأقاربه، أو ضمن البيت مع أفراد أسرته وزواره، وبالتالي يصبح عدد الضحايا المحتمل ضعف عدد من يستخدمون هذه الأجهزة على أقل تقدير، أي أن الهدف كان قتل خمسة آلاف شخص في غضون دقيقتين، والحمد لله عدد الشهداء أقل من ذلك بكثير، وهذا لا يقلل من هول الجريمة وفظاعتها، لكن الهدف المرجو منها تم إسقاطه بعناية ربانية، وبارتقاء المجتمع اللبناني بكل مكوناته إلى مستوى المسؤولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية.
- هاتان الجريمتان وما تلاهما إضافة إلى ما تم ارتكابه سابقاً من جرائم ومجازر وتغول وتوغل في قتل كل من يستطيعون قتله لتحقيق هدف واضح ومعلن وهو فصل جبهة جنوب لبنان عن جبهة غزة، وهذا ما لا يمكن لنتنياهو وحكومته وكل داعميهم أن يفرضوه على المقاومة اللبنانية التي قالت كلمتها، والتزمت بها منذ الثامن من تشرين الأول 2023م، وحزب الله مستمر بهذا الالتزام وإبقاء الجبهة مشتعلة إلى أن يتم وقف حرب الإبادة ضد غزة والضفة وبقية الأراضي الفلسطينية، وبالتالي هذا الهدف ساقط مسبقاً، بارتكاب مجزرة أو مجازر عدة.
- الهدف الآخر لهاتين المجزرتين كان إسقاط المقاومة، وشل قدراتها، ودفعها لليأس والقنوط والخوف والتردد، لكن المقاومين بقوا في خنادقهم وأماكن تموضعهم، وعادوا لاستهداف مقرات جيش الاحتلال ومحاور تحركه على مدار الساعة، أي أن بنية المقاومة وقوامها القتالي لم يتأثر قط، ولم يرتج أو يتغير، وبالتالي تم إسقاط هذا الهدف أيضاً.
- قد يكون من الأهداف المتوخاة لدى أولئك القتلة المجرمين خلق حالة ضاغطة على البيئة الحاضنة للمقاومة، وخلق شروخ جديدة واتساع الهوة بين مكونات الداخل اللبناني، لكن النتيجة أتت معاكسة تماماً، فقد التف اللبنانيون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية والفئوية، حول المقاومة ورجالها، وكانت اللوحة المتشكلة تجسيداً عملياً للوحدة الوطنية والتسامي على كل الجراحات البينية والمواقف الشخصية، وازدادت البيئة الحاضنة للمقاومة التفافاً حول مجاهديها وقيادتها، وانتقل ذلك الموقف إلى بقية الشرائح اللبنانية، وبالتالي هذا الهدف لم يسقط فحسب، بل أدى إلى عكس ما كان مخططاً له.
- تجديد التحدي العلني للعنصريين الصهاينة الأكثر إجراماً: نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغيرهم، ولكل داعميهم، والتشديد على أن لا قوة في الكون تستطيع إعادة المستوطنين الفارين من المغتصبات وأماكن إقامتهم إلا بإيقاف الحرب على غزة، وكل وقائع الميدان وحقائق الواقع تؤكد أن هذا التحدي محسوم سلفاً لصالح حزب الله، وهذا يعني سقوط هدف إعادة المستوطنين الفارين، ولا إمكانية لتحقيقه لا اليوم ولا غداً، ولا بعد غد، ولا ما بعد بعد الغد إلا بشروط حزب الله.
- عندما تسقط كل الأهداف المعلقة على أي مجزرة أو عدوان بالكامل يصبح الحديث عن إنجاز يتغنى به القتلة ثرثرة لا تغني ولا تسمن من جوع، فكيف إذا أضيف إلى ذلك عشرات النتائج الإيجابية المعاكسة بدءاً من الداخل “الإسرائيلي” إلى المواقف الإقليمية والدولية، بغض النظر عما يمكن أن تسفر عنه الجلسة الطارئة لمجلس الأمن، وحتى لو تم تعطيل إصدار قرار بـ”فيتو” أمريكي أو بريطاني أو فرنسي أو غير ذلك، فهذا لا يغير من حقيقة النظرة الكونية إلى الكيان المجرم على أنه لا علاقة له بحضارة ولا بتقدم، ولا بقيم أخلاقية وإنسانية، بل هو كيان لقيط قائم على القتل وسفك الدماء وارتكاب المجازر والجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، وأكتفي هنا باستحضار شاهد واحد من الداخل “الإسرائيلي”، وهو ما نشرته صحيفة “معاريف” 20/9/2024 في مقالة بقلم: ميشكا بن دافيد بعنوان: (ليس لدى إسرائيل وقت لتضيعه) قال فيها: “يبدو أن الدخول إلى الحرب في لبنان أقرب من أي وقت مضى، لذلك من المهم رؤية الصورة الكبيرة قبل الغرق في الوحل اللبناني”، وتابع في توصيف ساحات المواجهة إلى أن خلص للقول: “عدم قدرتنا على تحقيق أهداف الحرب في غزة يشعل الأضواء الحمراء بشأن الحرب مع حزب الله”.
- الجريمة النكراء اللاحقة التي ارتكبها جيش الاحتلال باستهداف بناءين في الضاحية الجنوبية وارتقاء عدد من الشهداء بعضهم أطفال لا تعبر عن عامل قوة لدى “تل أبيب”، كما أن اغتيال القائد الجهادي الكبير إبراهيم محمد عقيل رحمه الله لا يمنح الكيان القاتل تفوقاً، ولا يدنيه من تحقيق أهدافه الشريرة، بل يبعده عنها أكثر، ويزيد من الحقد عليه والإصرار على معاقبته وتنفيذ القصاص العادل به من حيث يحتسب، ومن حيث لا يحتسب، وقد يكون من المفيد أن نذكر المجرمين الصهاينة بأنه في عام 1981 تم تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران، في أثناء اجتماع قيادته، وأسفر التفجير عن استشهاد ثلاثة وسبعين قيادياً من بينهم آية الله بهشتي رحمهم الله جميعاً، ولم يضعف ذلك زخم الثورة الإيرانية قط، بل على العكس شكل استشهادهم قيامة لإيران، وتوهجاً للثورة، وتصميماً على إكمال الدرب، فاستشهاد القادة على الرغم من كل ما يفرزه من ألم ولوعة وخسارة فإنه يمنح المؤمنين بقضاياهم والمستعدين للتضحية في سبيل أداء الواجب المقدس المزيد من الزخم والإصرار على بقاء الراية خفاقة، وتأدية الأمانة بصون الرسالة والوفاء لنهج القادة الشهداء تقبلهم رب العالمين في فردوسه الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا…
دمشق في 20/9/2024م.
د. حسن أحمد حسن
مقال تحليلي منشور في موقع العهد الإلكتروني