إلى رفاقي الضباط والعسكريين ، إلى المقاومين الأبطال  وأرواح الشهداء الذين سقطوا في تلك الحرب ، إلى بواسل الجيش السوري الذين خاضوا معنا تلك المواجهة ، إلى جيل الأبناء والأحفاد ، أهدي هذه القصة الوثائقية .
السادس من حزيران عام ١٩٨٢ أطلق أرئيل شارون العنان لجموح نزواته العدوانية ، وبدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان ، ووصلت قوات الاحتلال إلى حاصبيا  والعرقوب في الجنوب-الشرقي  على السفح الغربي لجبل الشيخ ، وفي اليوم الثالث ، ما إن أفَلَ النهار وتوارت الشمس عن الأودية والروابي وراحت تُلملمُ آخر خيوطها عن قمم جبل حرمون ، حتى بدأت أصوات القذائف تُسمع في كل الأرجاء ، والرصاص يتساقط  حولنا كالبرد .
نظرت من النافذة ، فرأيت رتلاً من الدبابات  يتسلل عبر الوادي قرب قرية ميمس كأفعى الحراشف المنشارية تتهيأ لثرّ سمّها في الأجواء .
تابعت الدبابات تسلّق المنحدر  باتجاه قرية الكفير ، في محاولة للوصول إلى أعلى التلة قرب عين عطا ، حيث يمكنها من هناك السيطرة على الطريق الرئيسي ، الممتد من الحاصباني إلى مرج الزهور باتجاه البقاع الغربي .
وصلت دبابة الاستطلاع الأولى إلى منعطف حاد يُدعى «كوع التون» نسبةً إلى آتُون كان قديماً هناك ، أسفل بلدة الكفير  .
الآتُون وما أدراك ما الآتُون !!! إنّه عين جهنم في الأرض .
هو حفرة دائرية الشكل عميقة بما يكفي لتشهد أشد أنواع القتال والصراع فتكاً على الإطلاق ، النار في مواجهة الصخر  ، حرارة ضد الصلابة ، الصبر يُقارع اليأس ، الإصرار  يجالد الهوان ، معركة تدور رُحاها لأيام بل لأشهر  ، فلا جذوةُ النار تخبو ولا رأس الصخر يلين ، كان أجدادنا  وبكل عزم يقارعون الوقت والملل ، ويوقِدون النار ليل نهار  تحت كومة من الحجارة ، حتى تُصبح قابلة للطحن ، ويتم تحويلها إلى كلس أبيض ناعم ، استعملوه في البناء وطلاء الجدران .
بينما كانت الدبابة الأولى تُكابد لاجتياز الطريق الملتوية الضيقة ، محاولةً الالتفاف يميناً ،  خرج ماردٌ من قناة صغيرة للمياه ، وأطلق قذيفة صاروخية عليها ، فالتهمتها النيران على الفور ، وراحت تنفجر الذخيرة بداخلها ، وقفز منها ثلاثة جنود محاولين الهرب ، ما لبث المارد أن أمطرهم   بوابل من الرصاص ، فقُتلوا جميعاً.  
حاولت الدبابة الثانية التراجع ، لكنها سقطت في حفرة كبيرة ، فتركها طاقمها فريسة سهلة للصياد ، وسارع أفراده مهرولين إلى الخلف للنجاة بأرواحهم .
دارت اشتباكات الحديد والنار  ، وكان ذاك المارد يقفز  بين الفينة والفينة من مكان إلى آخر كشُهب البرق، يُعانق جذع شجرة هنا ويسند ظهره إلى دريئة هناك ، يرتطم حذاؤه بجبين الصخر ، فيترك فوقه  قِطعاً من طينٍ  يابس ، لترسم أثر مارد مرّ من هنا نحتت دعساته طريقاً للنصر ، كان يصول ويجول مطلقاً النار على العدو  ، من عدّة أماكن وفي كُلّ اتجاه ،  فاعتقد الإسرائيليون أنهم يواجهون فصيلة كاملة من المقاتلين  ، وأنهم وقعوا في كمينٍ مُحكم ، ففروا هاربين مسافة كبيرة  إلى الوراء .
أعطى قائد الكتيبة الإسرائيلية أمراً بالتقدم على طريق فرعي باتجاه بلدة الخلوات ، على السفح الشمالي لتلة الصنوبر ، بهدف تأمين الطريق في الجهة المقابلة . واندفعت عشر دبابات إلى داخل أزقة القرية الضيقة ،  فداست السيارات المتوقفة على جانبي الطريق ، وجعلتها صفيحاً رقيقاً أملس .
عند بزوغ الفجر رأى قائد الدبابة الأولى غرفة صغيرة قرب سنديانة دهرية في عمق الجبل ، فسدد قذيفة باتجاهها ، دون أن يعلم أنها مقام النبي شيت عليه السلام ، وللمصادفة الغريبة انشطر المدفع نصفين ، وعندما حاولت الدبابة التراجع ، انقلبت على جنبها الأيسر وعلقت في عامود للكهرباء .
قبل طلوع الفجر كانت قد وصلت مجموعة قوات الصواريخ المضادة للدروع ، إلى أعالي تلة الكفير ، وما كاد ينبلج نور الصباح ، حتى راحت تصطاد الدبابات الإسرائيلية العالقة على طريق الخلوات في الجهة المقابلة ، في ظروف مثالية لرمايات صواريخ ميلان الفرنسية الصنع .
أصاب الصاروخ الأول الدبابة الأخيرة مما قطع عليهم طريق الهرب والعودة ، وفي غضون أقل من عشر دقائق ، كانت النيران تلتهم الدبابات العشر  ، وسط ذهول ورعب في صفوف الإسرائيلين ، وكانت جثث القتلى مرمية في كل مكان ، ولم يتمكنوا من سحبها سوى بعد وقت طويل ، فكنت ترى بقايا الجنود متناثرةً في الأرجاء وزوايا الطرقات ، بعد أن عبثت بها كلاب القرية والحيوانات البرية .
توقف الإسرائيليون  عند مشارف الخلوات ، حتى تقدم لواء كامل من جهة الشرق عبر وادي جنعم ، وسيطر على تلة عين عطا ،وأمّن التغطية للقوات ، فعبرت بلدة الكفير  .
هدمت المنازل ، وسحقت السيارات ، بعد أن زرعت الأرض رصاصاً وقذائف ، وكان جنود الاحتلال يتلفّتون يميناً ويساراً ، باحثين في الأقنية وخلف الجدران ، عن ذاك المارد الذي أوقع الرعب في قلوبهم ، لكنهم لم يجدوه ، فشنوا حملة اعتقالات وتنكيل شعواء على أهالي الخلوات والجوار ، استمرت لمدة أسابيع  .
بقي الإسرائيليون هناك مدة من الزمن ، بعد أن وصلت قواتهم إلى منطقة الفالوج ، قرب بيادر العدس ، حيث دارت رحى إحدى أشهر معارك الدبابات ، الميركافا الإسرائيلية في مواجهة ال ت-٧٢ السوفياتية ، التي كانت بحوزة الجيش السوري ، الذي سطّر آنذاك ملحمةً بطولية لا تُنسى.
في مساء  الخميس العاشر من حزيران أجرى الطيران الإسرائيلي مسحاً شاملاً لمنطقة العمليات ، وقام بقصف وتدمير كل المواقع والآليات المدافعة ، وصولاً إلى مدينة عنجر  .
وفي ساعات الليل ، دفع الجيش السوري بلواء ميكانيكي داخل البساتين قرب بلدة السلطان يعقوب ، فتخفّى تحت الأشجار ، وأعطيت الأوامر لكتيبة دبابات ت-٧٢ كانت مرابطة في جوار بلدة ينطا ،  في الجهة الشرقية القريبة من الحدود السورية ، بالانتقال غرباً باتجاه بيادر العدس ، التي تبعد مسافة ألفي متر تقريباً عن مثلث الفالوج ، الذي كانت قد وصلت إليه القوات الإسرائيلية .
أعطى نائب قائد الجبهة الشمالية آنذاك ايهود باراك أمراً بالتقدم شمالاً ،  في محاولة لكسب الوقت قبل موعد وقف إطلاق النار ، الذي كان قد تم تحديده عند الساعة 12:00 من ظهر اليوم التالي الجمعة 11 تموز .
دفع الإسرائيلون خلال ساعات الليل وقبيل الفجر بكتيبة الدبابات 362 من الفالوج شمالاً باتجاه عنجر ، وكان الهدف الوصول إلى نقطة المصنع ، وقطع طريق الشام بيروت هناك . وعند اجتيازها نقطة مثلث بيادر العدس ، صُدف وصول طلائع الكتيبة السورية ،  فأصبحت القوة الإسرائيلية مطوّقة من الخلف ووقعت في كمين محكم ، اختلطت الدبابات بعضها ببعض ، وراحت تتناطح كأنها في حلبة ثيران ، ما جعل سلاح الجو الإسرائيلي ، عاجزاً عن التدخل لقرب المسافة بين الآليات .
تحولت المعركة إلى حلبة مبارزة ، استعمل فيها الجنود السلاح الأبيض ، وأصبحت الشجاعة هي الفيصل بدل طائرات العدو ، فاستبسل الجنود السوريون في الميدان وتسلّقوا الدبابات الإسرائيلية وفجّروها من الداخل ، وأظهرت دبابات ت-٧٢ السوفياتية مرونةً وتفوقاً ،  فهي أصغر حجماً وأسرع حركة من الميركافا التي بدت كجبل حديدي متثاقل الخطى يتحرك ببطء ، ما اضطرَّ الإسرائيليون  إلى تركها في ساحة المعركة ، والفرار بحثاً عن النجاة .
غنم السوريون عدداً من دبابات الميركافا بينها ست  دبابات  بحالة سليمة تقريباً تم إهداء واحدة منها إلى الاتحاد السوفياتي.
وترك الإسرائيليون بعض القتلى في أرض المعركة عُرف منهم زاخاريا باومل ألذي أُعيد تسليم جثته مؤخراً إلى “إسرائيل” بوساطة روسيا ، وتسفي فيلدمان ، ويهوذا كاوتسه ، اللذان ما زالا مفقودين ، ثم انسحبت فلول الكتيبة ٣٦٢ المندثرة إلى الفالوج ، ليسقط حلم الوصول إلى المصنع ، ويُغيّر بعدها شارون خطته ، فيسعى على المحور الغربي للوصول إلى نقطة المديرج ، والتي لم يحالفه الحظ بها ايضاً ، وما زال الإسرائيليون إلى اليوم ، يتذكرون سنوياً تلك المعركة بمرارة ، ويبكون قتلاهم الذين سقطوا هناك .
مرّت الأيام ، لكن مارد الآ تُون لم يختفِ ، بل عاد مجدداً مع رفاقه مراراً وتكراراً ، يضرب يميناً ويساراً مخلّفاً الدمار والخراب في مواقع الاحتلال  ،  تاركاً جنوده ، أشلاءً وفرائس للهلع والذعر والموت ، حتى لملموا ذيول الخيبة في أيار عام ٢٠٠٠ ، وتركوا أرض لبنان  ليرحلوا مهزومين ويتحقق نصر المارد بتحرير الوطن .

الخبير في أسلحة الدمار الشامل والقانون الدولي الجنرال أكرم كمال سريوي – لبنان