قطاع ساحلي رمال شطآنه بيضاء كقلوب شعبه ذي التاريخ الحضاري والعمراني والفني الزخم من عسقلان إلى رفح، وكأن كل الكون يغار من مدنه منذ قديم الأزل، فكلما ازدهر داهمه الغوغاء والأشرار كي يمنعوا ازدهاره، كلما وضع حجر على حجر جاء من يحلم بهدمه، ولكن ما انكفأ أبناؤه يومًا عن إعادته كما كان بل أجمل، وكأن كل غزوة تتحول إلى حبة خال على وجه غزة الحسناء لتزيدها جمالاً، كيف لا وهي درع فلسطين وبيت المقدس، درع صلب بصلابة حامليه على مر التاريخ.

غزة اليوم
طالما تغلبت غزة على الحصار رغم قسوته، ورغم عدة حروب مدمرة شُنَّت عليها منذ عام ٢٠٠٨ كانت دوماً تعود أجمل بدعم أبنائها من الطبيب إلى البنّاء، لكن العدو الوضيع يتعمَّد إعادة تدميرها.

كم هذا مؤلم؟، لك أن تتخيل عزيزي القارئ أن تبني بيتاً جميلاً بصعوبة ليُهدم بسهولة ثم تُعيد بناءه فيُهدَم، تخيل أن تكوِّن أسرة وترزق بأبناء فيتم قتلهم بوحشية، تخيل أن تكون أباً أو أن تكوني أمَّاً في غزة، كم هو قاسٍ هذا الحال، والأقسى أن تفقد كل شيء ثم تُلام على غضبك، لا تعلن ألمك لا مجال للحب، أنتم مجرد كومة حجارة.

قاربت هذه الحرب على العام شهد أهل غزة ما لم يشهده أي شعب من تنكيل ودمار وإبادة، صمد شعبها ورجال المقاومة أمام أعتى الجيوش وأكثرها وحشية، شعب اصطفاه الله لهذا الكرب المشرف، شعب فيه بأس شديد، لدرجة أن العالم القبيح بات يتصيد آلامه ليشمت به ويعلن انهزامه وليؤلِّب بين الشعب والمقاومة بأساليب قذرة، لدفع الشعب لأحد خيارين، إما أن يكون كومة حجارة وأن يكتم صوت مناجاته لإخوته العرب والمسلمين والبشر، وإما الانكسار والانهزام، فإذا ما علا صوتُه قالوا إنه يخون مقاومته، ليكونوا في الحالتين كما يريد منهم شياطين البشر، فشلت كل هذه المؤامرات ونحن نطوي عاماً من الحرب.

غزة تبنى خلال الحرب، خلية نحل لا تكلُّ ولا تملُّ لم تتعود على الدمار لأنها لم تتوقف عن البناء، وكلما أصدرت شهادات الوفاة تصدر أكثر من شهادة ميلاد، وكلما تدمر مستشفى أعادوا بناءه.

لذلك أتوجه لكل قارئ بأن شجاعة أبناء غزة وصمودهم لا يعني أن الإنسان في غزة عصيٌّ عن التعلق ببيته وابنه وإنجازاته الوظيفية وعن الفن والطرب وكتابة الشعر، هم أهل ساحل يحبون السمر ويحبون السعادة مثلنا وأكثر.. هم يحبون الحياة فلا تلوموا حبهم وتكونوا جزءاً من حربهم.

صلاح الدين حلس – الكويت