“متخلفون جاؤوا من مناطق الأناضول النائية”. هكذا أجمل جنكيز جاندار من صحيفة “راديكال” نظرة نخب تركيا الساحلية التقليدية غربية الهوى لحكام تركيا الجدد من حزب العدالة والتنمية. التوصيف الذي يتضمن جانباً مهماً من القصة الحقيقية للصراع في وعلى تركيا، يعكس كذلك التناقضات الإجتماعية والسياسية والثقافية والجهوية العميقة التي فجرتها التحولات في موازين القوى المحلية التي شهدتها تركيا تدريجياً منذ صعود النخبة الجديدة في مطلع القرن الجديد، وبلغت أوجها في محاولة الإنقلاب في تموز/ يوليو ٢٠١٦ وما أعقبها من عمليات تطهير لأجهزة الدولة. الإنقلابات، إذن، لا تحدث “كصاعقة في سماء صافية”، كما جاء في نقد ماركس لرؤية فكتور هوغو في “نابوليون الصغير” في تعليقه على إنقلاب لويس بونابرت في كانون الثاني/ ديسمبر ١٨٥١، بل لها مقدمات في السياسة والإقتصاد والإجتماع.

لكن بعكس إدارة نخبة إردوغان الناجحة نسبياً لصراع النخب المحلية، كما تجلى ذلك في فشل الإنقلاب وإمساكهم بالسلطة، إصطدمت أحلام إردوغان – غول ـ أوغلو الإمبراطورية (إحياء تركيا وإستعادة مجالها العثماني) بالحائط. كان الحلم أكبر بكثير مما يمكن لإمكانيات ومؤهلات وقدرات تركيا أن تنجزه. بالغ الثلاثي في إدراك حدود ثورتهم الحقيقية التي كانت تركية محلية أساساً وتمثلت في إحداث نقلة إجتماعية وثقافية وجهوية والتأسيس لجمهورية تركية ثانية، كما أغفلوا إدراك حدود قوة ومؤهلات وإمكانيات تركيا للعب دور قوة فوق إقليمية، أو حتى عالمية، كما جنح خيال فيلسوف الحركة. فأوغلو كان يرى أن جغرافيا تركيا الأوراسية بإطلالة إفريقية، وتاريخها العثماني الإمبراطوري تؤهلانها لدور عالمي بإمتياز. لذلك، حين كان البعض لا يرى في تركيا أكثر من دولة نصف محيطية شبه أوروبية، كان أوغلو يرى فيها القوة المركزية في العالم الإسلامي مستنداً إلى وهم إمكانية إستعادة المجال العثماني.

لهذا، لم يكن داود أوغلو متفاجئاً حقاً، كما أدعى، حين قال لمجلة الأيكونوميست في ١٩ آب / أغسطس ٢٠٠٩ أن “بوتسوانا طلبت وساطته في خلافها الحدودي مع ناميبيا”، خصوصاً أن إردوغان، رئيس وزراء تركيا حينها، زار الصومال بعدها بأشهر قليلة وفي مخيلته دور تركي مركزي في إفريقيا. لكن عمود الأيكونومسيت يومها، والمعنون “الوسيط الكبير”، لم يخلُ من حس الفكاهة التي ربما تكون قد فاتت وزير خارجية تركيا، أو ربما تكون قد ضاعت في الترجمة. كان على أوغلو فقط أن ينظر إلى التعليق تحت صورته المرفقة مع التقرير، “كيف يستطيع السيد أوغلو خدمتكم”، ليدرك ذلك، وليدرك، كذلك، من تفاصيل النص أن الحديث يدور عن وسيط وليس عن مفوض إمبراطوري.

لكن، يبدو أن ما جرى من تحولات منذ صدور كتاب أوغلو “العمق الإستراتيجي” في عام ٢٠٠١ (ترجم للعربية في ٢٠١٠) وحتى تسلمه وزارة الخارجية، ولاحقاً صعود وهم “الحزام الإخواني” في بداية “الربيع العربي”، ساهم في خداعه بصحة فقر قراءته لتاريخ وجغرافيا وإمكانيات ومؤهلات تركيا وعزز عنده الإستنتاجات الخاطئة عنها. هكذا جنح أوغلو بـ “خياله الإستراتيجي” خالطاً بين دور إقليمي واقعي وممكن لبلده بمكانة عالمية وحتى إمبراطورية تتطلب وتفترض الكثير مما لا تملكه تركيا. وفوق ذلك، فات أوغلو أن “سياسة تصفير المشاكل” التي إستندت إليها دبلوماسيته قد تمّ تفخيخها بألغام الرؤية التوسعية المتضمنة في وهم إستعادة المجال العثماني من سوريا إلى القوقاز.

أوغلو أخطأ منذ البداية في إفتراض أن “معادلة القوة” هي أشبه بمعادلة رياضية (العمق الإستراتيجي، ص: ٣٥) وشاب فهمه لمعطيات القوة الثابتة والمتغيرة الكثير من السطحية وقصر النظر. لذلك نجده يحصي عدد السفارات الجديدة، مثلاً، كمؤشر على نجاح فكرته ومنافسة تركيا لفرنسا في شمال إفريقيا. فاته أنه حتى قبل تفكك الدولة العثمانية، ومن جملة ما قاد لتلك الخاتمة، كان صعود القوميات في مناطق سيطرة العثمانيين لوحده مؤشراً لتغير جذري في مجال تركيا الإستراتيجي، حتى لا نتحدث عن نتائج الحرب العالمية الأولى وما بعدها. لم يتوقف التاريخ عند ١٩١٨، لكن مئة عام من التحولات الهائلة في مناطق نفوذ العثمانيين السابقة لم تقنع إردوغان حين افتتح قناة “تي آر تي” التركية الناطقة بالعربية في ابريل ٢٠١٠ من أن الوطن العربي لم يعد ولا يمكن أن يكون هامش محيطي تابع لمتروبول عثماني ـ قال “ببهجة”، يومها، أن “لهذه المحطة ٣٥٠ مليون مشاهد محتمل”.

ذات النظرة، لكن بتبعات أخطر لأنها اصدمت بقوة دولية كبيرة وخصم قديم هذه المرة، ميزت الحسابات التركية بخصوص الجمهوريات الناطقة بالتركية في وسط آسيا (تركمانستان، قيرغيزستان، اوزبكستان، وكازاخستان، وأذربيجان). تناسى فريق إردوغان التحولات الجيوسياسية التي أعقبت صعود وسقوط الإتحاد السوفييتي ولاحقاً صعود روسيا. فبإستثناء أذربيجان، وبسبب صراعها مع أرمينيا المدعومة روسيا، إنتهت كل تلك الجمهوريات إلى مناطق نفوذ روسية، برغم بعض الإتفاقات الاقتصادية المحدودة مع تركيا (وهذا قبل دخول روسيا لسوريا وتحولها للاعب أساسي جنوب تركيا). قصر النظر التاريخي والجيوسياسي ربما دفع طاقم حزب العدالة والتنمية للظن أن عشر سنوات من العلاقة الاقتصادية والسياحية مع روسيا هي القاعدة وأن ما استجد من توتر وخصومة في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية وبرغم جذوره التاريخية والجيوسياسية العميقة المستمرة هو الإستثناء. لكن، ولأن العكس هو الصحيح، يصعب التفاؤل سورياً وعربياً كثيراً وقريباً من “التطبيع” الروسي التركي.

المتابعون لحقائق العالم وحالة المنطقة وإمكانيات تركيا أدركوا منذ البداية مبالغة أوغلو الكبيرة في تحديد وتعريف مجال تركيا الإستراتيجي، وحتى سخروا منها أحياناً ـ كان “تعريفاً فسيحاً وتوسعياً”، حسب الـ نيويورك تايمز في تعليقها على عرض أوغلو للوساطة بين صربيا والبوسنة ومبالغته الشديدة في دور تركيا في العراق (٢٠ كانون الثاني ٢٠١١). كذلك، لم يأخذ الكثيرون حقاً كتاب “العمق الإستراتيجي” على محمل الجد بالقدر الذي أخذه مركز الجزيرة للدراسات حين قام بترجمته بعد عشر سنوات من صدوره لأسباب سياسية وأيديولوجية أكثر منها أكاديمية ومعرفية (ترجم الكتاب لليونانية والألبانية فقط ولأسباب مفهومة أيضاً). أما في الأكاديميا، فالكتاب ليس أكثر من “ترهات طقوسية”، حسب وصف هنري باركي المتخصص في الشؤون التركية، ويستند إلى نظريات متقادمة في العلاقات الدولية حسب أحد زملاء اوغلو في جامعة مرمرة.

لكن حسابات أوغلو، الذي ظنّ نفسه “كيسنجر تركيا”، كما جاء في إحدى وثائق الخارجية الأميركية التي سربتها ويكيليكس، كانت مختلفة وأستندت، كما يبدو، لفكرة “الإستثناء التركي” التي آمن بها، حسب وثيقة اخرى سربتها ويكيليكس تعود لـ ٢٠٠٩. فتركيا كما رآها هي “إما عضو، أو شريك استراتيجي أو مراقب في كل المنظمات الدولية من الناتو، للامم المتحدة، ومن مجموعة العشرين وتحالف الحضارات (ونأمل بعضوية الإتحاد الأوروبي) حتى منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي مؤسس مجلس الدول الناطقة بالتركية، مراقب في آسيان ومحاور شريك لمجلس التعاون الخليجي، الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي” (طارق إسماعيل “العلاقات الدولية في الشرق الأوسط المعاصر” ص: ٢٠٧). هكذا أخطأ أوغلو ورفاقه في معادلة حساب القوة وإدراك عمق وتأثير متغيرات الجغرافيا والتاريخ. هكذا ساد التفكير الرغبوي الساذج والرؤية الطقوسية السطحية عندهم على حقائق الواقع فكان الوهم الإمبراطوري.

لا أعرف إن كان أوغلو قد قرأ والتر بنجامين، أو إن كان قد قرأه وفاته إدراك حكمة الناقد الفذ، تماماً كما فاته ملاحظة خفة الظل التي طبعت نص عمود الإيكونوميست “الوسيط الكبير”. لكنه كان حتماً سيستفيد من تعزيز خياله الإستراتيجي والتاريخي المحدود بجمود النظريات السياسية المتقادمة التي اعتمد عليها في كتابه بقليل من حسّ النقد الأدبي من عبقري الإستعارات الألماني. في “شارع بإتجاه واحد”، كتب بنجامين، وكأنه يسدي نصيحة لأمثال أوغلو: “لا تسرد حلمك على معدة فارغة”.


د. سيف دعنا

مقالات مختارة
مقال منشور على موقع الميادين عام ٢٠١٦