أجمل نساء الكون بيروت،، جدائل من نور معلقة في السماء، ساقان من رخام نحتتهما الملائكة لتثبتهما في أرض الجليل.. بيروت، نهدان سخيان بالعسل والحليب المعتق، وخصر عجيب يراقص بحراً عاشقاً ولهاناً وساحراً.. يلف البحر المتيم ذراعيه حول الخصر البيروتي في اشتياق دهْرِي.. البحر في بيروت مد وجزر من الهدوء والصمت والصبر، دقوا المسامير حول خصر بيروت ليفصلوها عن البحر فزاد البحر اشتياقاً وصموداً وتشبثاً بالخصر.. أشعَلوا النيران بين البحر العاشق وبيروت الأميرة فتمادى البحر وتمدد وبموجه تعدد، ولم يهجر حبيبته بيروت..
البحر في بيروت يهمهم منذ طلوع الشمس: «لن يحظى مغزل الساحرة العجوز بأميرتي بيروت ما دمت هنا، لن أهاجر ولن أموت”..
بيروت أبجدية اللغة والأصوات، وأغنية فيروزية تصعد كل صباح جديد من عمق جبل، بيروت ليست مدينة بل مدن من ألم وغضب، بيروت الحزن في أقصى مداه، بيروت شوارع الصمت والصخب، بيروت قدرة الاحتمال وفن الاختزال للفرح الآتي، بيروت الصابرة، وبيروت الدهشة !!!.
حين تنزل على بيروت غريباً، تحس أنها مدينتك والنفس الأول للحياة، كأنما الله حين أبدع الكون جعل نقطة ارتكازه في بيروت.. بيروت زمن التوازن الكوني، تحتشد حولها السماوات والكواكب وتحتفل أو تقتتل، وبيروت الصابرة تنتظر..
وكأنما الله حين ابتدع الإنسان ربط حبل السرة بأعالي صنوبر بيروت. بيروت مغناطيس، لا تذهب من بيروت حتى تعود إليها، بيروت شوق وتوق لرفرفة العصافير وأهازيج القادمين من الجنوب، بيروت الحنينُ وبعثرة اللغة العجيبة أسراباً، وبيروت الشعر والخيال والحلم والضباب، وبيروت ذاكرة التعب وفيض من أسرار الألم والأمل والترانيم الحزينة..
حين تنزل على بيروت غريباً، لا تحس بالغربة، بل باحتفاليات الحياة. في بيروت القاتلة المقتولة ترقص الحياة حولك في كل لحظة واتجاه، بيروت عروس من الغبطة والاشتياق، بيروت رقصة البجع فوق الغمام، وبيروت نسائم بكل الألوان، نسائم بيروت لها لون وطعم وشكل المهرجان..
حين نغادر بيروت تغادرنا أرواحنا وتبقى معلقة في قلب بيروت.. لا نهتم ونرحل، بأمل أو دون أمل، نتسلق السماء ونواصل المسير نحو البلد، نحاول النسيان فننظر من الأعلى بشيء من الوحشة والشوق للبلد.. نشق سماء الضفة وننظر للأرض المقدسة..
يا الله متى؟؟ كل أرض فلسطين هنا، وهناك بيروت، وهذا امتداد الجنوب، وَتَدٌ بين الأرض والأرض وهنا عناق البحر للبحر.. كل المياه لنا.. كل السماء لنا.. ملء السماء لنا..
غردي يا بيروت، أنت المحج وأنت المدى.. جبة أبي ذر تنسحب على ثراك وتدثره بعبق الندى.. غردي يا بيروت فأنت الموعودة والمتعددة.. أنت باء برد لبنان في الشتاء القاسي والدامي، وياء السلام واليمن على الأرض المباركة، وراء الرايات العالية التي تخفق في السماء، وروح الحكايات القديمة منذ النطفة الأولى، وواء الوفاء لأرض الميعاد والمواعيد المرتقبة، وتاء التسابيح بكل لغات الرب..
بيروت الركن والدير والدور والدوائر المخيفة والدائرات التي لا تنتهي والدوران الذي يصيبك بالدوار ويفقدك التوازن في مسرى توازن الكون..
بيروت مفتاح الشرق، وعطر الحرف، لون البنفسج ورائحة الياسمين القادم من حلب، أهازيج الصامدين في الجنوب، وأناشيد الصباح الجديد.. بيروت مغناطيس الأرواح، بيروت مدى مفتوح للحلم والانتظار، بيروت دهشة ورعشة وحيرة وهواء..
النسيان في بيروت !!..
قلت لبيروت الحالات، كم ستُرجم من مدن، وكم سَنُسْقِط من عواصم، وكم سَنُشْعِل من لبنان ؟؟ صِحْت في بيروت، كم سَيَضِيع من أقصى، وكم ستذبل من زهرة في انتظار المعنى الجديد ؟؟، كم ستحزن من مواسم وتمرّ دون اعتذار للبحر المرابط هنا دون انكسار.
قلت لبيروت، أنت لاءات الكون مجتمعة والكون رحلة، لا، لن تنسحبي يا بيروت من نبض الحياة، ولا بغداد، ولن تحترق دمشق ولن تغير الجزائر الأمكنة. هي مجرد غفوة فتونس حضن الرايات الحرة تشهد أن ليل بيروت غيث نجوم ونوَار وياسمين الشام التي لن تنتهي،، من بيروت الانتظار ننظر للبدايات الجديدة، هي أسئلة البقاء وقرار الوجود، والكون حين تشكل كنا هنا،، زلزالاً وطوفاناً وإعصار. ولازالت بيروت الفاتنة المعشوقة هنا،، يهدمون فتعيد البناء، ثم يُهَدِّمُون وتعيد البناء، ومن جديد تعود للأعياد والحياة.
يا صنوبر الخلود، يا جبل لبنان العنيد، يا بحر بيروت النشيد، مَجِّد الحياة فوق أرض فينيق وآشور وبابل، لبنان لن ينكسر ولن ينفجر وأبداً لن يموت.
إلى لقاء قريب في بيروت..
هند يحيى – تونس