حين تنهار الأقنعة… تبقى الحقيقة
بقلم د/ نجيبة مطهر / مستشار مكتب رئاسة الجمهورية
في ظل ما يُطرح اليوم تحت عناوين “المناطق المنزوعة السلاح”، نجد أنفسنا أمام مشروع قديم متجدد، يُستهدف من خلاله قلب الحقيقة ونسف جوهر الأرض والإنسان. هذا المشروع ليس مجرد دعوة للتهدئة أو ضمانات أمنية، بل هو سعي مستمر لتحويل الأرض إلى فراغ، لا مقاومة فيه ولا حياة. ما يراد هو إفراغ المكان من معناه، ومن شعبه، بحيث تصبح الجغرافيا مفتوحة أمام الهيمنة الكاملة.
العدو الصهيوني، الذي عمل على مدار عقود من الزمن على تحطيم إرادة الصمود في غزة، يواصل محاولاته لبناء “واقع جديد” في المنطقة. ولعلَّ أكثر ما يعكس حقيقة أهدافه هو التركيز على نزع روح المقاومة، ليس فقط في غزة، بل في كافة جبهات المقاومة في الشرق. فالحصار والتجويع، والسيطرة على الموارد والحدود، وتفكيك الهياكل السياسية في لبنان وبلاد الشام، هي أدوات بيد العدو ليكسر المقاومة، ليس فقط في الجغرافيا، بل في التاريخ والذاكرة.
وما يجذب الانتباه في هذه المرحلة هو التغطية الإعلامية السائدة التي تسعى لترويج فكرة أن هذه الأراضي قد أصبحت مستعدة للاستسلام، وأن ميزان القوة بات يميل بشكل حاسم لصالح العدو. لكن ما يُخفى عن العالم هو أن القوة التي يتبجح بها الكيان الصهيوني ليست ذاتية، بل هي قائمة على تحالفات سياسية ودعم جوي من القوى الكبرى. فبدون هذه القوة الخارجية، لم يكن لهذا الكيان أن يصمد أمام إرادة شعب يقاوم ويضحي.
غزة ليست مجرد أرض محاصرة، بل هي اختبار حقيقي للعالم بأسره، اختبار أخلاقي وسياسي. هي المكان الذي تتعرى فيه الأقنعة، حيث يتم قياس القيم، وحيث تنكشف حقيقة النظام الدولي. لم تُهزم غزة بالقصف، ولم تُمحَ بخيامها المهدمة، ولا بجوع أهلها. بل ما انهار هو وهم التفوق العسكري، وهم القدرة على اقتلاع شعب من تاريخه، وهم الردع الزائف الذي طالما تبجحت به آلة الحرب.
ما حدث في غزة لم يكن هزيمة لإرادة الصمود، بل فضيحة للعالم الذي صمت، أو اكتفى بالتبرير، أو حتى اكتفى بمراقبة المشهد. المؤسسات الدولية التي طالما ادَّعت أنها تدافع عن حقوق الإنسان فشلت في حماية الأطفال الذين واجهوا الموت بردًا وجوعًا. هذه هي الفضيحة الحقيقية، وهذه هي المعضلة التي يجب أن تواجهها الضمائر الحية في هذا العالم.
لكن في النهاية، تبقى الحقيقة الأعمق:
لا يمكن محو شعب. لا يمكن إنهاء فكرة راسخة في الوعي والذاكرة. فحيثما وُجد إنسان متمسك بأرضه وكرامته، تولد المقاومة، مهما كانت الصعاب. حيثما وُجدت أرض مباركة، وُجدت الحياة، وُجدت المقاومة، وُجد الصمود.
غزة اليوم ليست مجرد سؤال عن القوة العسكرية أو السيطرة على الأرض، بل هي سؤال عن العدالة. ليست مجرد عنوان حرب، بل مرآة تُظهر ما يمكن أن يكون عليه هذا العالم: إما أن يكتشف فيه إنسانيته، أو يعترف بسقوطها. غزة اليوم تشكل شهادة على أن ما يمكن أن يُمحى من جغرافيا الأرض، لن يُمحى من جغرافيا الذاكرة الإنسانية.
هؤلاء الذين يروجون لفكرة “المناطق المنزوعة السلاح” ليسوا مهتمين بأمن أو تهدئة، بل بما هو أخطر: نزع البشر أنفسهم من تلك الأرض. يريدون أن يجعلوا من غزة، ومن كل أرض مقاومة، أرضًا بلا روح، بلا ماضٍ، بلا مستقبل.
ولكنهم لا يعرفون غزة، ولا يعرفون الشعب الذي يعيش فيها. فهي ليست مجرد “أرض محاصَرة”، بل هي أرض العزة، أرض الكرامة، أرض الطوفان التي ستجرف كل هذه الأوهام.
الطوفان الذي لا يمكن لأي قوة أن تقف أمامه، لا طائرات إف 35 ولا جيوش الجرار. هذا الطوفان هو الذي قتل الفكرة الصهيونية وخلَّف هزيمة ستمتد إلى الأبد. لم يخسر الطوفان، بل خسرت الأمة التي تخلت عنه، خسرت الأمة التي لم تحتضنه وتؤمن به. نعم، قد تُدمَّر الخيام وتُهدَّم المنازل، لكن “طوفان غزة” سيجرف كل ما عجز عن فهمه أو احتضانه.
إما أن نرى في غزة عدالة الأمم، أو نُشاهد سقوط العالم. لا يمكن للأنظمة، سواء كانت عربية أو غربية، أن تظل صامتة أمام هذه الحقيقة التي لن تتوارى، بل ستظل تُسجل في ضمير الإنسانية. هذا هو الوقت الذي سيحاسب فيه الجميع، ويفهمون لماذا يموت أطفال غزة بردًا وجوعًا ومرضًا.
غزة، بأرضها وأهلها، تظل جرحًا عميقًا في ضمير العالم.