الخطاب بين قصور الفهم وإرادة التشويه
بقلم:عهد التميمي_فلسطين
يُروى أن أحد النقّاد اتهم الفنان الإيطالي بيكاسو بأن لوحاته غامضة وغير مفهومة فأخذ بيكاسو ريشته ورسم سنبلة قمح على الأرض بدت حقيقية إلى درجة أن دجاجة حاولت التقاطها ابتسم الناقد وقال: هذا هو الإبداع فردّ بيكاسو: لكنني لا أرسم للدجاج.
هذه الحكاية تكشف حقيقة مركزية: إن منطلقات الفهم والخلفية المعرفية والدوافع والرغبات هي المدخلات التي تتحكم في مخرجات تحليل أي ظاهرة أو خبر أو معلومة وحين تكون هذه المدخلات مشوّهة فإن النتيجة إما قصور في الفهم أو توظيفٌ رغبويٌّ للمعرفة في خدمة الدعاية أو التشويه.
منذ أن أصبح الخطاب الغربي الاستعلائي والعنصري خطاباً مهيمناً وُضع العقل العربي—وخطاب النخب والمثقفين—في إطار دونيٍّ دفاعي يبحث عن التبرير ودرء الاتهام منطلقاً من عقلية ونفسية الضحية المهزومة التي تعرض روايتها وقضيتها في صيغة بكائية مشبعة بالدونية والاستجداء وقد انعكس ذلك بوضوح على القيادات السياسية العربية ولا سيما في السياق الفلسطيني حيث شكّل خطاب الضحية وثقافتها الأساسَ الذي قادنا إلى مشاريع التسوية بحثاً عن سلام لم يولد ولن يولد من رحم عملية تفاوضية مختلّة موازين القوة ترجّح كفّة الاستعمار الغربي ممثلاً بالصهيونية ومشروعها الاستيطاني على ترابنا الوطني.
انطلاقاً من هذا الفهم ولأن استعمار الوعي أخطر من استعمار الأرض جاء السعي إلى تغيير لغة الخطاب حفاظاً على دلالات المفاهيم التي تعرّضت للتشويه تحت لافتات الدبلوماسية والواقعية السياسية والتطبيع والتطويع الغاية منه أن تبقى وطنية الرسالة والمفهوم ووضوح المنطلق متجسدة في سلوك يُعبّر عنه بالفعل الحيّ في الميدان المشتبك بغضّ النظر عمّن يقوم به في مواجهة ثقافة التطبيل والتسحيج التي تهيمن على فضاء ومساحة الحوار الوطني.
إن المطلوب هو جيلٌ متحرّر من التجاذبات الفصائلية والتعصّب الأعمى وذلك عبر إعادة تعريف الذات: من ضحية بكّاءة إلى صاحب رسالة ومناضل من أجل حقه في وطنه وحريته وعدالة قضيته فالتفكير بعقلية المناضل ونفسية الأحرار يعيد ترتيب الأولويات ويفتح أفقاً مختلفاً لفهم الأمور ويُقَدِّم الخطاب الوطني والرواية الفلسطينية بسردية ولغة تليقان بشعبنا وقضيتنا.
لذلك ليس مطلوباً منا تجميل صورتنا أمام الغرب ولا لعن ذواتنا ولا إعلان البراءة من تاريخنا المقاوم لأنه لا ينسجم مع معاييره العنصرية بل على الغرب نفسه أن يعيد رسم صورته على أسس إنسانية لأنه صاحب سجلٍّ إجراميٍّ حافل ولا يزال يدعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق كل ما هو فلسطيني وما خروج الأحرار في شوارع أمريكا إلا انتصاراً لانسانيتهم أولاً ودفاعا عن قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية التي تربوا عليها ثانيا وليس مِنّةً بل واجبٌ ومسؤولية إنسانية وأخلاقية نُقدّرها ونضعها في هذا السياق.
وعليه فالفلسطيني ليس مُلزَماً او مسؤولاً بتوضيح الفرق للعالم بين الصهيونية بوصفها مشروعاً وأداةً استعمارية وبين اليهودية كدين فما تعرّضت له فلسطين وشعبها من نكبة ونكسة وتطهير عرقي وإبادة جماعية ارتُكب باسم اليهودية على يد الصهيونية لذلك فإن المسؤولية الأخلاقية تقع على اليهود أنفسهم للدفاع عن دينهم وتحريره من قبضة الصهيونية وتقديم خطاب يتبرأ صراحة من الجرائم المرتكبة باسمه.
من هذا المنطلق يقع على عاتقي وعاتق كل فلسطيني مطالبة الغربَ بالاعتذار عن المحرقة لا بوصفها جريمة ضد الإنسانية فحسب بل لأنها لا تزال مستمرة وتُرتكب بحقنا منذ النكبة بالأمس البيعد حتى غزة هذا اليوم فأصبحنا على يد هذا المحتل ضحيةَ الضحية نقتل باسمها ونعاقب باسمها لأن الصهيونية احتكرت مأساتها وأخرجتها من فضائها الإنساني ووضعتها في إطار قومي شوفيني متطرّف يبتزّ الغرب لتبرير مجازره بحق شعبنا وتصفية قضيتنا الإنسانية العادلة.
لهذا لسنا متهمين أمام أحد لتبرير ذاتنا ولا يقع علينا ايضا عبء التبرير باننا لسنا ضد اليهود واليهودية بل ضد هذه الحركة الصهيونية الاستعمارية الإحلالية العدوانية في فكرها وممارستها التي تقع على اليهود أنفسهم مهمة تقديمهم لليهودية بصورة متحررة من الصهيونية وأن ينتصروا أخلاقياً على هتلر كما نناضل نحن—كفلسطينيين—مسلحين بقيمنا الأخلاقية والإنسانية المتجذّرة في موروثنا الحضاري منذ فجر التاريخ لا لأنها تتوافق مع القانون الدولي بل لأنها جزء أصيل من تكويننا.
إن دَمَنا المسفوك على مرايا الضمير الإنساني لن يبقى مهرباً للغرب الاستعماري من عبء الندم فهو يحتاج دمنا لإعادة تعريف اليهود واليهودية بصورة نازية تُبرّر جريمته التاريخية أما نحن فنتجاوز خطاب الضحية ونفسيته ونؤسس لخطاب مسؤول، أخلاقي، تحرّري.
أما على مستوى الخطاب الداخلي—في قضايا منظمة التحرير والسلطة والتنظيمات والحرية وتقييم الأداء السياسي لمجمل المشهد الفلسطيني—فإن موقفنا ينطلق من أننا شركاء في الجهد والمسؤولية ولسنا أدوات مستخدمة لدى أي حركة أو حزب أو فصيل. نؤدي واجبنا اليوم ومن حقنا أن نُحاسِب غداً وأن نُعاقِب بعد غد لهذا فالمسؤولية الوطنية المترتبة على القيادة الفلسطينية اليوم هي أن تسمع شعبها نقداً وتقييماً موضوعياً للتجربة الفلسطينية كاملة لا أن تلجأ إلى التبرير أو صناعة وهم الإنجاز إذا كانت تريد فعلًا بناء جيلٍ حرّ يحمل لواء قضية لا يليق بها إلا الأحرار لا ثقافة العبيد.
