الاقتصاد السياسي لأفول الإمبراطورية
ناصر قنديل
– يقدم الدكتور زياد الحافظ في رائعته المخصصة لإثبات روايته التي دأب ربع قرن على المناداة بها حول دخول الإمبراطورية الأميركية مرحلة التراجع التاريخي، بحثاً موثقاً في الاقتصاد والسياسة والاجتماع السياسي والثقافي، يشكل مادة مرجعيّة لا غنى عنها لامتلاك فهم حقيقي لأميركا ومصانع السياسة فيها، وتوازنات المكونات الكبرى في اقتصادها، وميكانزمات عمل ما يعرف بالدولة العميقة، وديناميكيات الاجتماع السياسي من أصول إثنية وعرقية وثقافية وأنماط تساكنها ونزاعاتها، بحيث تزاحمت المعلومات الموثقة مع التحليل الدقيق لتقديم لوحة متدفقة الألوان سهلة الفهم رغم تعقيد العناصر التي تقوم بمعالجتها، لكنها معالجة العالم الخبير الذي يملك مفاتيح تفكيكها وتشريحها وتبسيط إعادة تقديمها وجمعها وتركيب الصورة الحية منها، بحيث لا يمكن أن تقع يد الباحث على كتاب يمكن أن يُكتب على غلافه “الدليل لفهم الداخل الأميركي والدولة العميقة ومراكز القوى والنفوذ في أميركا”، على ما هو أفضل وأغنى وأدق من هذا الكتاب، الذي يمكن تشبيهه بدليل الاستخدام الذي يصل عادة من المصانع المحترفة مع الآلات المعقدة، شارحاً كيفية عملها وتشغيلها وفهم أسرارها.

– في هذا النص لا اقوم بتقديم الكاتب الدكتور زياد الحافظ، الصديق ورفيق النضال الفكري والثقافي، وقد تشاركنا في تأسيس منتدى سيف القدس مع نخبة عربية مناضلة ومثقفة في الوطن والمهجر تثابر على خوض معركة الوعي تحت عنوان فلسطين البوصلة والمقاومة خيار ولا مستقبل دون الوحدة، وفي كل أسبوع كان المنتدى ينتظر مداخلات الدكتور زياد الحافظ التي تزخر بالمعلومات والتحليل يُغني بها المضمون المعرفي والثقافي للمنتدى والمشاركين فيه ومتابعيه، ومثله كان ينتظر الشباب والصبايا في منتدى شباب سيف القدس ما يقدّمه الدكتور الحافظ يحفظونه عن ظهر قلب ويعيدونه في نقاشاتهم مادة مرجعية لفهم الوضع العربي والدولي، ويقدّمون من خلاله الروح التي تنبض بها مداخلات ومقالات الدكتور زياد مشيعة التفاؤل في أشدّ لحظات النضال صعوبة وأكثر الأوقات قتامة، بناء على قراءة منهجية تفكك تناقضات المعسكر الغربي والصهيوني، تستقرئ اتجاه حركة الصراع، وهو منذ سيف القدس الذي حمل المنتدى اسمه يبشر بطوفان قادم لا محالة، ومع الدكتور زياد حل المقاوم الأممي الذي صار شهيداً عظيماً السيد حسن نصرالله رفيقاً دائماً بما أضافه من عمق قراءة ينوّه بها الدكتور زياد باستمرار، ويضيء على مكانة الأخلاق في السياسة التي شكّل لها السيد مثالاً حياً، وقدمت تعبيراً ملموساً عن معنى الفارق بين فائض القوة والقيمة المضافة، فصارت ثلاثية منتدياتنا رباعية بإضافة السيد إلى فلسطين والمقاومة والوحدة، وصارت المنتديات ثلاثة بولادة منتدى التفكير الاستراتيجي، الذي استضاف الشهيد الكبير إسماعيل هنية، وقدّم له الدكتور زياد وقام بمحاورته باسم المنتدى الذي جمع شخصيات فكرية وثقافية عربية، تقدّمها المفكر والمثقف العربي رئيس حكومة العراق السابق الدكتور عادل عبد المهدي، الذي لا يُخفي إعجابه الدائم بالتحليلات العلمية للدكتور زياد، ويعتبرها مرجعاً في فهم الحالة الأميركية بتعقيداتها وخلفياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

– في كتابه هذا جمع الدكتور زياد المنهج الخلدوني لقراءة التاريخ ومنهج إبن رشد في علم الاجتماع، إلى العلوم الحديثة في الاقتصاد المصرفي، وعناصر تكوين الموازنات العامة للدول وكيفية إدارة محافظ الدين، مستفيداً من خبرته التي راكمها عبر سنوات التعاون مع المؤسسات الدولية المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مستنداً إلى علومه الجامعية العالية وأستذته في كبريات الجامعات لتعليم الاقتصاد والسياسة، وقراءاته التي لا تتوقف كطالب نهم لا يزال في سنته الجامعية الأولى.

– هذا الكتاب يرسم خطوطاَ بيانية لثلاثة منحنيات في المسار الأميركي، خط بياني للقوة الاقتصادية، وخط بياني آخر للمشروع الاجتماعي والثقافي، وخط بياني ثالث للقيادة السياسية وفي قلبها مكانة الدولة العميقة، ويرصد حركة هذه الخطوط البيانية وتعرّجاتها ومساراتها، على مدى ربع قرن منذ بدء حروب المحافظين الجدد، ويقيم بعض الإسقاطات لمقاطع على مدى نصف قرن مع نهاية حرب فيتنام، وفي بعضها على ثلاثة أرباع القرن، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويكتشف كيف أنها جميعها للمرة الأولى ترسم منحنى انحدار متماد ومستدام، بينما في محطات تأزم سابقة كان أحد الخطوط البيانية يسجل مساراً هابطاً لكن الثاني كان يسجل منحنى صعود، ولا يمكن فهم المسار الانحداري عندما يستديم ويتمادى في كل الخطوط البيانية، إلا كدليل على دخول الامبراطورية مرحلة الأفول، وربما التفكك، طالما أن الخط البياني الاجتماعي والثقافي يفقد حيوية وقدرة الصمود ويمتنع عن تسجيل اتجاهها نحو الصعود، بل يشترك مع المسارين الاقتصادي والسياسي في الانحدار.

– لو كان الكاتب من النخب الأميركية التي تعد التصورات وتقديرات الموقف لصناع القرار، لكان عنوان كتابه، انتبهوا أميركا في خطر، خطر الانحلال والسقوط والانهيار، وسارعوا لفعل شيء كبير يتيح منح أميركا فرصة البقاء على قيد الحياة، إن لم تكن ممكنة إعادتها الى مكانتها السابقة، وإن كانت أميركا العظمى تحتضر فهل يمكن إعادة إحياء أميركا العظيمة، القوية بقدرتها الداخلية والمتأقلمة مع تراجع نفوذها الخارجي، وإن استعصى الاثنان، هل يمكن ابتكار شيء جديد مثل أميركا الكبرى، بتطلّعات التوسّع نحو الجوار والاحتماء وراء المياه؟

– لو كان الكتاب استقراء مركز دراسات من مراكز الدولة الأميركية العميقة يجب أن ينتهي بتوصيات لصناع القرار الأميركي، لكانت التوصية، أن أميركا تحتاج إلى حل من خارج الصندوق، إلى عملية جراحية، إلى استجماع قوى تحالفات جديدة تشكل جبهة إنقاذ تضرب على أيدي قوى عملاقة تتحكم بمسار الدولة الأعظم في العالم وتسير بها إلى الهاوية.

– إن المادة المعرفيّة التي يقدمها الكتاب والأزمات البنيوية التي يضيء على عمقها وحجم تأثيرها ودرجة تجذرها، تجعلنا نفهم بصورة أفضل لماذا جاءت الموجة الحاملة لظاهرة دونالد ترامب على مدى عقد متصل، وعندما هزمت عادت بصورة أقوى، لأنها في الأصل أكبر من مجرد ظاهرة شعبوية بيضاء في قلب حرب هويات مفتوحة ينظر خلالها البيض للملونين باعتبارهم تهديداً ديمغرافياً وشيكاً، ولأنها أكثر من مجرد ظاهرة اجتماعية محافظة في مواجهة مخرجات العولمة وأمراضها وتلوثاتها وآخرها الجندرية المفرطة الذاهبة لاستخدام موارد الدولة ومؤسسات التعليم لدفع المجتمع قسرياً نحو انفصام شخصيّة جنسيّة مريضة، في قلب حرب ثقافية تدور على كل المنابر والمنصات الجامعية والكنسية والإعلامية.

– يستطيع القارئ أن يجد في الكتاب الاقتصاد السياسي للترامبية، باعتبارها محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتغيير الاتجاه، في لعبة خداع تاريخية إمبراطورية، تحت عنوان أميركا العظيمة بدلاً من أميركا العظمى لنحصل على أميركا الكبرى في الخطاب الترامبي، عبر الدعوة لضمّ كل كندا والمكسيك وبنما وغرينلاند.

*القسم الأول من المقدمة التي أعددتها لكتاب الدكتور زياد الحافظ الجديد “أميركا حقائق ومسارات” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية.