عندما تبحث الإمبراطوريات عن عدوٍّ داخلي: أوروبا بين مأزق أوكرانيا وارتدادات غزّة.

تحت ضغط التحولات الدولية وتراجع قدرتها على الفعل الاستراتيجي المستقل، إلى منطق “العدو الداخلي” بوصفه أداة لإعادة ضبط التوازنات الداخلية، مع تركيز خاص على العرب والمسلمين المهاجرين. ينطلق التحليل من تقاطع ثلاثة مسارات: مأزق أوروبا في الحرب الأوكرانية، الزلزال المعرفي والأخلاقي الذي أحدثته حرب الإبادة في غزّة داخل الرأي العام الغربي، والتحول نحو صراعات غير محسومة عالميًا تعيد رسم موازين القوة. ويخلص التقرير إلى أن التاريخ لا يعيد نفسه حرفيًا، لكنه يستعيد منطقه بأدوات جديدة، وأن ما يُقدَّم كأزمة هو، في المقابل، اعترافٌ موضوعي بتآكل التفوق الغربي وصعود قوى المقاومة كفاعلٍ لا يمكن تجاوزه.

فحين تعجز القوى الكبرى عن الحسم خارجيًا، تبدأ بالبحث عن تماسكٍ قسري داخلي
أوروبا اليوم ليست في موقع المنتصر ولا المهزوم. الحرب في أوكرانيا كشفت حدود القوة الأوروبية: عسكريًا بلا استقلال، سياسيًا بلا وحدة، واستراتيجيًا بلا أفق. الاتفاقات الأمريكية-الروسية، المعلنة أو الضمنية، تؤكد حقيقة واحدة: أوروبا ليست مركز القرار، بل ساحته.

هذا الوضع الوسيط—لا نصر ولا هزيمة—يُنتج قلقًا بنيويًا لدى النخب الحاكمة، قلقًا تاريخيًا معروفًا. في مثل هذه اللحظات، يصبح “الداخل” ساحة التعويض: تشديد الخطاب الهويّاتي، تضخيم مسألة الهجرة، وربط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بـ“آخر” قابل للتجريد من الشرعية.

غزّة كسرت احتكار الرواية
ما جرى في غزّة لم يكن حدثًا إقليميًا معزولًا، بل لحظة كاشفة. للمرة الأولى منذ عقود، تُعاد تصدير القضية الفلسطينية إلى قلب الوعي الغربي، لا عبر القنوات الرسمية، بل عبر الشارع، الجامعات، والنقابات.

العرب والمسلمون في أوروبا لعبوا دورًا محوريًا في هذا التحول، ليس بوصفهم جالية صامتة، بل كفاعلٍ سياسي-أخلاقي أعاد طرح السؤال المركزي: من هي الضحية ومن هو الجلاد؟ هذا ما أقلق القيادات الغربية، لأن التعاطف مع فلسطين لم يبقَ محصورًا في “الهامش الراديكالي”، بل اخترق التيار العام، مهددًا التماسك السردي الذي حمى إسرائيل عقودًا.

إسرائيل هنا ليست “دولة محل نزاع”، بل عدوٌّ استعماريٌّ يمارس القتل والإبادة، وهذا التوصيف لم يعد حكرًا على خطاب المقاومة، بل بدأ يجد طريقه إلى وعيٍ غربي متنامٍ.

الضغط يولّد الانفجار وهنا سأنتقل إلى مثال أستراليا، وإطلاق النار على يهود خلال احتفال ديني، يجب أن يُقرأ بميزانٍ دقيق. هذا الفعل مدان أخلاقيًا ولكنه نتيجة لا يمكن فصلها عن سياق عالمي من الاحتقان، حيث تتراكم مشاعر الغضب والقهر لدى شعوبٍ ترى الإبادة تُبث مباشرة بلا محاسبة. الخطر الحقيقي هنا ليس في توصيف الفعل، بل في استثماره سياسيًا لتعميم الاتهام، وشيطنة جماعات كاملة، وتحويل العرب والمسلمين إلى “تهديد أمني” بدل كونهم ضحايا نظام دولي مزدوج المعايير.

عندما تتحدث الوثائق الاستراتيجية بلغة الهوية، فاعلم أن الأزمة وجودية
الإشارة في الوثيقة الاستراتيجية الأمريكية الحديثة إلى “أزمة الهوية الأوروبية” وتآكلها بفعل الهجرة ليست تفصيلًا عابرًا. هذا خطاب انسحابي، يلمّح إلى إعادة ترتيب دوائر الحماية، ويطرح أسئلة صريحة حول من هو “جدير” بالمظلة الأمريكية.

هنا يبرز سؤال تركيا، لا بوصفها حالة منفصلة، بل كنموذج لدول داخل المنظومة الأطلسية لكنها خارج “النواة الحضارية” كما تُعرَّف غربيًا. هذا المنطق يعكس تحوّلًا من تحالفات قائمة على المصالح إلى اصطفافات قائمة على الهوية، وهي بيئة خصبة لإنتاج صراعات داخلية.

«الحروب غير المحسومة تعني اعترافًا ضمنيًا بتوازنٍ جديد»

روسيا لم تنتصر نصرًا كاسحًا، وأوروبا لم تُهزم هزيمة نهائية.
أما في الشرق الأوسط، لا الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرون على فرض إرادتهم، ولا إيران وحركات المقاومة بصدد حرب شاملة. هذا الجمود الاستراتيجي ليس ضعفًا للمقاومة، بل اعتراف عالمي بأن زمن الحسم الأحادي انتهى.

بالنسبة لمحور المقاومة، هذا الواقع ليس سيئًا. إنه يكرّس معادلة الندية، ويفتح المجال لإعادة تشكيل الإقليم على أساس توازن ردع، لا هيمنة مطلقة. فالعالم، يعترف بأن الطرف الذي كان يُعتبر “أضعف” بات شريكًا في صناعة المعادلات.

التاريخ لا يكرر أحداثه فقط ، بل يعيد إنتاج المنطقة

المقارنة مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ليست إسقاطًا سطحيًا. آنذاك، لم تكن ألمانيا تبحث عن اليهود فقط، بل عن تفسيرٍ مبسط لهزيمةٍ معقدة. اليوم، أوروبا لا تبحث عن “يهود جدد”، لكنها تبحث عن كبش فداء يخفف عبء التراجع.
في المقابل، ما كسر هذا المسار هو الوعي: وعي الشعوب، ووعي الأجيال الجديدة، ووعي أن إسرائيل عدوٌّ استعماريٌّ لا يمكن تبييضه إلى الأبد. المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الرواية، ومن يربحها يحدد شكل العالم القادم.

فاتنة علي_لبنان/سورية الكبرى