في تعريف الهوية تكمن الإجابة في اللغة الموحدة والخصائص الديناميكية التي تجمع الأفراد في المجتمعات وفي مجتمعنا العربي لم تكن فكرة القومية والهوية الجامعة وليدة لحظة الصحوة العربية بعد هزيمة الدولة العثمانية والمناداة في ثورة عربية لإنجاز تحرر عربي للتخلص من آثار الاحتلال العثماني لمنطقتنا العربية وإن تشكلت الثورة العربية الكبرى في مرحلة معينة من تاريخنا العربي فقد تكللت بالفشل تبعا للمطامع الدول المنتصرة في وطننا العربي وحب السلطة والملكية للقائمين عليها ،وفي الرجوع إلى التاريخ نجد أن كان هناك فكرة لدى محمد علي لإنجاز الثورة البرجوازية العربية وقد وصل بجيشه إلى الأناضول معقل الدولة العثمانية ولسبب معين في معسكر الحلفاء تم إرجاع هذا الجيش حتى لا تكون هناك قوة تستطيع المنافسة وإنجاز استقلاليتها بعيدا عن دول الاستعمار وأهدافها.
في مجتمعنا العربي البدوي الأول وقبل مجيء الإسلام كان عبارة عن مجموعة من الرعاة توحدوا في الصحراء وما وحدهم هي اللغة والمجتمع آنذاك بحكم الظروف السائدة في عصره من البحث عن الطعام والماء ومناطق للرعي.
القومية العربية : القومية لم تكن يوماً شعار ترفعه الأحزاب سواء نجحت في تلك الشعارات أو فشلت ، بل القومية هي ديناميكة حركية أساس الهوية الجامعة ، وهذا ما جعل من العرب إبان نكبة فلسطين أن يكون للأفراد والجيوش قتال عن الأرض العربية للشعور والإدراك بخطورة الاستعمار والصهيونية على الوطن العربي وهذا أيضا ما دفع الأشخاص والمفكرين لتشكيل جمعية العروة الوثقى مع الحكيم جورج حبش ومن ثم تجربة حركة القومين العرب والتي علينا الوقوف على تلك التجربة ليس فقط للارتباط بفلسطينية مؤسسيها بل للزخم وللفكر القومي النقي التي حملته في كل الأقطار العربية والمساهمة في تحريرها ، وكذلك التجربة الناصرية في جوهرها الاشتراكي القومي الحقيقي والتي استطاعت أن تنجز تجربة تحررية ماركسية فعلية دون أن تبقى الماركسية حبيسة الكتب والتنظير ، في تلك التجربة جعلتنا نرى الماركسية بعيون عربية امتثالاً للجملة الشهيرة – لكل مجتمع ماركسيته الخاصة به.-
والرغم وجود أسباب واضحة لعدم استكمال هذه التجربة لكنها كانت وجهاً جميلاً لتذكيرنا بعروبتنا والقومية العربية والسعي لتوحيد الأقطار العربية.
الهوية بين شمولية التعريف والهوية القاتلة: فيم لا شك به الهوية ليست تعريفا فضفاض على هواء كل منظر أو كاتب وفي هويتنا العربية يبقى السؤال عند كل كارثة أو نكبة أين العرب ؟ وبمجرد هذا السؤال يزيل كل تلك الهويات القاتلة سواء كانت تلك هوية وطنية بتعريف التنوير الذي ظهر مع الاستعمار ، فكانت أحد أشكاله هي الاستعمار بالهوية وضرب مفهوم الهوية القومية وقطع الطريق على أي تحول لإنجاز مشروع تحرر عربي، وفي إقليم الهلال الخصيب عمل الاستعمار على تقسيم بلاده إلى دوليات وتمتلك تلك استقلالاً ظاهراً في الوجود في العلم الخاص للدولة والنشيد الوطني وكذلك الجيش الوطني وهذا الجيش يأتمر للاستعمار وملكه كمثال الجيش الأردني قبل أن تتم عملية تعريبه ، وكذلك المحاولات العديدة على مدى قرن من الزمان لنسف الجيش السوري والتي نجح بها مؤخراً الاستعمار في ذلك.
وفي الهويات القاتلة تظهر أيضا مؤخراً الهوية الجندرية – هوية قوس قزح – تحاول الإمبريالية وتسعى جاهدة لنسف المجتمعات من خلال اللعب على الهوية الثقافية مُستغلة في ذلك اليسار النيوليبرالي وقد ظهر ذلك واضحاً في روسيا في بداية الحرب الروسية الأوكرانية وكذلك في مجتعتنا العربية فتصبح الصرخة الكورية هي أقصى درجات النضال !
والسؤال كيف تكون هي النضال ؟ وهي تمتثل للمؤسسات ” الانجي أوز” والامتثال للإملاءات الدول المناحة ، وهنا العودة ضرورية لليسار وكيف أصبح من يسار ثوري لا يعرف إلا معنى الثورة الشاملة والوعي الثوري إلى يسار ليبرالي عوضا عن السعي للنهضة المجتمع أصبح عبارة عن ثلة أشخاص تقف على الصرافات الآلية ! وأصبح صراعنا الطبقي والقومي في طيات الأوراق وصراع الجندر والهويات المصطنعة هي أساس صراعنا !
وفي الهويات القاتلة أصبحت هناك الهوية الرياضية وهذا شيء يدعو جدا للسخرية من واقعنا لأنها ليست فقط أحاديث عابرة في لحظة ما بل تصل إلى تضارب بالأيدي ويصبح السؤال عن الولاء والانتماء إلى تلك الفرق وما يثير العقل أكثر بأن يصبح بين الأفراد منافسة على العلم والمعرفة في تلك الفرق وإن سألنا أنفسنا عن واقعنا أو تاريخنا تكون الإجابة ” شو بدنا بالسياسة !”وهذه أرويها من خضم الاحتكاك الشخصي مع أبناء المجتمع وقد لمست بأن أصبح هناك هوية قاتلة اسمها الهوية الرياضية ولا يعلم أولئك بأن ” كرة القدم ” هي بالأساس رياضة للفقراء والكادحين.
هوية ” يا وحدنا” : في ظل الإبادة التي استمرت عامان في غزة أصبح الدم النازف سلعة تباع وتشترى في غرف إعلام النفط ومغرديه على مواقع التواصل الاجتماعي والعديد أصبح يستغل من تلك الغرف الدم تلبية للأموال النفط ، وفي ذلك أيضا ظهر البعض الفلسطيني وكأن لديهم صكوك الغفران توزع على هواء المغرد أو أجندته وهُنا تنويه: الشعب الفلسطيني هو الشعب العربي الذي يشكل عليه وعي أمة كاملة بل وبكل صدق يشكل وعي هذا العالم وتجارب الثوريين الأنقاء أمثال وديع حداد وغسان كنفاني وناجي العلي هي المثال الكامل ، والمؤسف بأن الحالة العامة أصبحت بلا إدراك وتغللت المؤسسات الممولة في مفاصله ليغدو شعب يفكر بالخلاص تحت شعار يا وحدنا وهنا هذه ليست حالة فقط تنطبق على المجتمع الفلسطيني بل في كل مجتمعاتنا العربية.
الهوية الداعشية : في نكبة سقوط سورية رأينا أنفسنا أمام واقع جديد تحكمه المجاميع الإرهابية بلباس الدولة وأصبح استذكار التاريخ ولصق العرب بفكر القتل وإلغاء الآخر هي مفتاح الكينونة العربية واستمراريتها !
وتبقى سورية وجعنا الباقي في ظل الأحاديث كلها عن التطبيع ومشاريع أدوات الإمبراطورية فيها ، والخطورة تكمن دوما في صلب القضية وتصفيتها على طريق الشرق الأوسط الجديد ، وما زالوا يصنعون الوهم في مسمى ” الثورة السورية” ، ولم يدركوا بعد معنى الهوية الجامعة، وفي ظل غياب مشروع حقيقي والهوية الجامعة التي فتتها الاستعمار ستلتقط هذه الفوضى الهوية الداعشية، ويتم إعادة الوطن العربي ومنطقة بلاد الشام خصوصاً إلى نقطة سايكس بيكو ومحو الهوية القومية الجامعة لو في الإطار القومي الضيق فيها وقطع أي شكل متوقع في ظل الفوضى للسير نحو سورية الطبيعية على أقل تقدير ، ويبقى السؤال : كيف نعيد البحث عن الهوية؟ ، لا بد لنا من إعادة صياغة التعريف والبداية من القومية العربية ، وفي الهوية الداعشية ظهر القتل على الطائفة ولعل كلمات الرجل في جبل العرب ” أنا سوري يا أخي ” كلمات لها صوت لن يغيب في وصف الحالة السورية الآن.
حركة القوميين العرب : شكلت حركة القوميين العرب جزءً مهما في تكوين الوعي القومي والأسس في تكوين رافدة في تاريخنا العربي والقضية الفلسطينية وقد كان نشوء الحركة تبعاً لنكبة فلسطين ” إن نشوء حركة القوميين العرب قد ارتبط بنكبة عام 1948، وقد أخذت القضية الفلسطينية صيرورة اندماجها القومي المعاصر على يد حركة القوميين العرب ، ليس فقط ارتباطاً بفلسطينية مؤسسيها ، بل والأهم إرتباطاً بالصوابية العالية للشعار السياسي الرئيسي للحركة : بإن توحيد العرب هو مدخل تحرير فلسطين ودمجها مع محيطها العربي ، بهذا المعنى فإن تصفية حركة القوميين العرب ، وقطع الطريق على تحولاتها الممكنة باتجاه حركة قومية ثورية منحازة للطبقات الشعبية ، وبمضامين ديمقراطية إنسانية وبأفق إشتراكي ، تستلهم التراث، وتتكأ على المعاصرة…
هو في النتيجة العامة : تصفية للذاتي القومي التوحيدي ، بما هو واحد من أهم حلقات التعبير المنظم عن قومية الشارع العربي ووحدويته العالية بالتواكب مع تصفية الروابط الأصيلةبين القضية والمشروع القومي حاضنتها وطريق خلاصها ” د. جبرا الشوملي.
ومن هذا المدخل في شمولية تعريف الحركة يكمن المعنى في الحل لهذا الحاضر ،وعلينا استلهام هذه التجربة للنهوض مجددا في اليسار العربي والذي لا يمكن له النهوض دون إعادة الجبهة الشعبية كرافعة حقيقية لليسار العربي.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين : نشأت الجبهة الشعبية بعد نكسة حزيران عام 1967 وتشكلت كنتاج لتجربة حركة القوميين العرب بفكر اليسار المسترشد بالماركسية – اللينية ، ورغم كل ما حققته الجبهة الشعبية في الماضي الجميل في الأقطار العربية والأرض المحتلة ، وما زال لها وجود في الفكر والثورة إلا أن هناك أزمات تعصف بالجبهة يذكر منها اعتقال كوادرها وقادتها والأمين العام للجبهة أحمد سعدات ، اغتيال قادة العمل العسكري في الانتفاضة الثانية، التضيق المستمر على رفاقها ، وكذلك الأزمة الفكرية التي أنتجها الاحتلال بقطع التواصل بين الرعيل الأول والثاني وبين الشباب الصاعد ، وأيضا ما يعانيه اليسار العربي بالعموم والفلسطيني كرافعة لهذا اليسار ،العزلة التي أبعدته مجتمعياً عن الواقع الذي يعيشه فبقيت النظريات حبيسة الأفراد ، في حين حماس باعتمادها على ثنائية السياسة – الدين استطاعت في زمن قياسي أن تجمع أكبر عدد من الجمهور ، وفي النظر لحركة فتح فهي استطاعت بشعبويتها أن تملأ الساحة دون تحول ثوري حقيقي.
وفي ظل الأزمة الفكرية التي تشكل الهوية الفكرية لا بد من الوقفة مع الذات والعودة لحركة القوميين العرب والمبادئ الأساسية لها فهي التجربة الأنجع وهي من ستلتقط هذه الفوضى والسير بالجماهير على بداية الطريق للتحرر العربي.
ويبقى السؤال أين العرب؟ هو الملهم وقاطع الطريق على تلك الهويات القاتلة.
محمد بربراوي.فلسطين