في مثل هذا اليوم، تمرّ الذكرى الأولى لاستشهاد رئيس المكتب السياسي السابق لحركة «حماس» ويُطرح سؤال من هو يحيى السنوار، أحد ليسلط الضوء على مسيرة أحد أبرز رموز المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأحد العقول المؤسسة لمسار المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
مسيرة حافلة امتدت لأربعة عقود، جمع فيها بين الفكر والتنظيم والميدان والسجن والقيادة، وانتهت كما بدأت: مشتبكاً.
من هو يحيى السنوار: النشأة والبدايات الأولى
وُلد يحيى إبراهيم السنوار عام 1962، في مخيم خانيونس جنوبي قطاع غزة، لعائلة لاجئة هُجّرت من بلدة المجدل المحتلة عام 1948. في أزقة المخيّم تشكل وعيه الأول، حيث امتزجت طفولته برائحة البارود وصوت الأذان، فكبر مؤمناً بأن فلسطين لا تُسترد إلا بالمقاومة.
درس اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في غزة، وهناك كان من أوائل الشباب الذين أسسوا النواة التنظيمية لحركة المقاومة الإسلامية. عرفته الحركة منذ بداياتها شاباً صلباً، جريئاً، لا يعرف المساومة، ومتقدماً الصفوف في العمل التنظيمي والميداني.
من العمل الطالبي إلى التنظيم المسلح
في مطلع الثمانينيات، انتقل السنوار من النشاط الطالبي إلى العمل التنظيمي المسلح. عام 1983، شارك في تأسيس جهاز «أمن الدعوة»، الذي شكّل النواة الأولى لجهاز الأمن العام للحركة لاحقاً. وبعد ثلاث سنوات، أسهم في تأسيس منظمة «مجد» الجهاز الأمني لـ«حماس»، التي تولت ملاحقة العملاء وكشف المتعاونين مع الاحتلال.
الاعتقالات
تعرض السنوار للاعتقال مرات عدة. أولها عام 1982 في سجن الفارعة لمدة ستة أشهر. وفي عام 1988، حكم عليه الاحتلال بأربعة مؤبدات، فقضى 23 عاماً متواصلة في الأسر، بينها نحو أربع سنوات في العزل الانفرادي.
داخل السجن، لم يتوقف عن العمل التنظيمي والفكري، بل قاد الهيئة القيادية العليا لأسرى «حماس»، وأشرف على إضرابات كبرى عن الطعام. تحوّل إلى أحد أبرز القيادات التنظيمية والفكرية داخل المعتقلات، يقود الأسرى بثباتٍ قلّ نظيره، وينظم صفوفهم ويؤطر وعيهم السياسي. كان السجن بالنسبة إليه مدرسةً للوعي وميداناً آخر للاشتباك مع العدو.
كما أتقن اللغة العبرية، وكرّس سنوات الأسر للبحث والكتابة، فألّف وترجم كتباً عن الأمن والسياسة الإسرائيلية، من أبرزها:
«الشاباك بين الأشلاء»
«الأحزاب الإسرائيلية»
«المجد»
«التجربة والخطأ»
كما ألّف روايته الأدبية «الشوك والقرنفل» التي وثّقت مراحل النضال الفلسطيني بعد عام 1967.
العودة إلى الحرية… وموقع القيادة
في عام 2011، خرج السنوار إلى الحرية ضمن صفقة «وفاء الأحرار»، ليعود إلى شعبه أشد تمسكاً بخيار المقاومة.
بعد الإفراج عنه، تولى مسؤوليات قيادية رفيعة في حركة «حماس»، ولعب دوراً محورياً في تطوير بنيتها الأمنية والعسكرية. بعد عام واحد، تزوج وأنجب ثلاثة أبناء: إبراهيم وعبد الله ورضا.
دخل بعدها مباشرة في العمل السياسي والتنظيمي، فانتُخب عضواً في المكتب السياسي للحركة، وتولى الملف الأمني عام 2012، ثم الملف العسكري عام 2013.
على لائحة الاستهداف الأميركية
عام 2015، أدرجته الولايات المتحدة الأميركية على قائمتها «للإرهابيين الدوليين»، وهو العام ذاته الذي كُلّف فيه بإدارة ملف الأسرى الإسرائيليين لدى «كتائب القسام».
كان لقبه «القائد المشتبك»، لأنه لم يفصل يوماً بين الفكرة والبندقية. آمن أن المقاومة ليست خياراً تكتيكياً، بل قدر لشعبٍ يواجه احتلالاً لا يعرف إلا لغة القوة. وفي كل مرحلة من مراحل الصراع، كان يؤكد أن غزة ستبقى خط الدفاع الأول عن القدس والأقصى، وأن السلاح هو الضمانة الوحيدة لحماية الحقوق الوطنية.
رئاسة الحركة في زمن الحرب
عام 2017، انتُخب السنوار رئيساً للمكتب السياسي لـ«حماس» في قطاع غزة، ثم أعيد انتخابه لدورة ثانية عام 2021. وبعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة عام 2023، قاد السنوار الحركة في واحدة من أكثر مراحلها حساسية.
وفي السادس من آب 2024، انتُخب رئيساً للمكتب السياسي للحركة خلفاً لهنية.
لحظة الاستشهاد… مشتبكاً
في السادس عشر من تشرين الأول 2024، استُشهد يحيى السنوار أثناء اشتباك مع قوات الاحتلال في مدينة رفح، بعد مسيرة طويلة من النضال والفداء.
رحل مرتدياً جعبته العسكرية، مقبلاً غير مدبر. وكما حرم الاحتلال من الأمان خلال معركة «طوفان الأقصى»، حرمه أيضاً من صورة النصر في لحظاته الأخيرة.
وبحسب الرواية الإسرائيلية، بادرت قوات الاحتلال إلى الاشتباك مع مجموعة من الأشخاص من دون تحديد هويتهم، بينما لجأ أحدهم إلى مبنى في المنطقة تبيّن لاحقاً أنه السنوار . أظهرت الصور التي نشرها جيش العدو السنوار ملثماً، يجلس على مقعد ويرمي لوحاً خشبياً نحو مسيّرة إسرائيلية دخلت المبنى، قبل أن يتم استهدافه بقذيفة دبابة.
«طوفان الأقصى» المعركة التي غيّرت وجه المنطقة
في اليوم الـ377 من المعركة، جاء الإعلان عن استشهاد «القائد المشتبك». وهي المعركة التي شاركت فيها قوى عالمية عظمى، بدعم عسكري واستخباري ضخم لإسرائيل، في حربٍ وُصفت بأنها الأخطر والأعنف في تاريخ غزة الحديث، وتوشك أن تغيّر وجه المنطقة.
إرث القائد والذاكرة التي لا تموت
في خاتمة أسطورية تشبه بدايته، ظهر السنوار بجعبته العسكرية ولثامه، أصيب في يده، ربطها بسلك حديدي، وواصل القتال.
من هو يحيى السنوار؟ إنه القائد الذي رحل كما عاش: صامداً، مشتبكاً، ثابتاً كجبال غزة. إرثه ليس سيرة شخصية فقط، بل جزء من ذاكرة المقاومة الفلسطينية الحديثة.
واستذكرت «حماس»، في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السنوار «بكل فخر واعتزاز سيرته العطرة ومسيرته المباركة، حيث عاش حياته مجاهداً منذ شبابه، وصامداً ثابتاً قاهراً لسجّانيه خلال سنوات الأسر الـ 23، ومواصلاً مسيرة الإعداد والبناء والتخطيط بعد التحرّر من السجن، حتى ميلاد فجر السابع من أكتوبر عام 2023، الذي قهر الاحتلال، وزلزل كيانه الراهن، وحطّم أسطورة جيشه، وصولاً إلى ارتقائه شهيداً على أرض المعركة مُلتحماً ومُشتبكاً».
وأكدت الحركة في بيانها أنَّ «استشهاد الأخ القائد يحيى السنوار، ومن قبله كلّ قادة ورموز الحركة الذين سبقوه على درب ذات الشوكة ومسيرة النضال من أجل التحرير والعودة، لن يزيد الحركة وشعبنا ومقاومتنا إلا قوَّة وصلابة وإصراراً على التمسّك بمنهجهم، والمُضيّ على دربهم، والوفاء لدمائهم وتضحياتهم».
وأضاف البيان: «يمرُّ عامٌ كاملٌ على تلك الملحمة البطولية التي شاهدها العالم، كان بطلها قائد معركة طوفان الأقصى. جذوة الطوفان لن تخبو، ودماء القادة الشُّهداء تعزّز طريق المقاومة للأجيال، وعهد الثبات على نهجهم والوفاء لتضحياتهم ومسيرتهم حتى تحرير الأرض والمقدسات».