منذ اللحظة الأولى يجب أن نثبت قاعدة أساسية: الولايات المتحدة لا تملك “حلفاء” بقدر ما تملك “احتياجات”. التحالفات التي تعقدها ليست ثابتة أو قائمة على القيم، بل على المصلحة المؤقتة، وكلها تتبدد أمام تحالفها مع الكيان الصهيوني الذي يشكّل قاعدتها الأكبر واستثمارها الأهم.
إسرائيل بالنسبة لأمريكا والغرب مجتمعين ليست مجرد كيان وظيفي، بل شريان حياة. فامتلاك النفوذ في الشرق الأوسط يعني السيطرة على الطاقة، والتحكم في طرق التجارة، والقدرة على الهيمنة سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.
لماذا قطر الآن؟
قد يتساءل البعض: هل كانت (إسرائيل) عاجزة عن اغتيال قادة حماس داخل الدوحة؟ الجواب الأرجح: لم يكن الهدف مجرد الاغتيال، بل تعطيل أي مسار سياسي قد يطيح بنتنياهو ويوقف آلة الحرب. فاليمين المتطرف في (إسرائيل) يدرك أن وقف الحرب على غزة ستكون له تداعيات كارثية على وجوده، وأن الانقسام الداخلي الذي يعصف بالمجتمع الصهيوني سيترسخ ويستحيل ترميمه.
نتنياهو نفسه يعلم أنه لا يستطيع القضاء على المقاومة في غزة ولا إجبار أهلها على الاستسلام. لذلك جاء قصف قطر كخطوة مركّبة تخدم عدة أهداف:
1. إفشال أي اتفاق سياسي وشيك يمكن أن يزيد الضغط على نتنياهو.
2. زيادة الضغط على حماس من خلال تصويرها كمسبب رئيسي للمأساة الإنسانية في غزة.
3. إن قطر رغم حلفها مع أمريكا و (إسرائيل )، لكنها اضطرت للقبول بضرب اراضيها رغماً عنها والمقابل هو التسويق لفكرة أنها نجحت في حماية وفدها، بينما فشلت إيران ولبنان في حماية قادة بارزين كهنية والعاروري،وبهذا ضمنت مخرج لها بصورة جيدة.
4. تعزيز الانقسام الفلسطيني الداخلي بين السلطة في رام الله وحماس المقاومة، لتكريس حالة الشك والضغط على الشارع الفلسطيني بكل أطيافه.
بين الواقع والوهم
لكن هذه الحسابات قد تنقلب على صانعها. فإسرائيل، مهما تمددت عسكرياً، لن تتمدد ديموغرافياً. شعبها خليط من المرتزقة والمهاجرين، وصورتها أمام الرأي العام العالمي باتت مهزوزة أكثر من أي وقت مضى. القناع سقط، وسقطت معه أسطورة “السلام” والاتفاقيات مع دول الخليج.
ما جرى في قطر ليس حدثاً عابراً، بل رسالة أوسع: الكيان الصهيوني لا يعرف حدوداً، ولا يعترف بسيادة دولة عربية كبرى أو صغرى. طموحه أبعد من غزة وأبعد من فلسطين، إنه يسعى لفرض معادلة جديدة تعيد رسم المنطقة وفق مصالحه.
جرس إنذار للأمة
القصف لم يكن مجرد تحدٍّ لقطر، بل جرس إنذار للأمة كلها. فهل يوقظ هذا الحدث العرب على حجم المشروع الذي يتهددهم جميعاً؟ هل يدركون أن التطبيع والرهان على “السلام” لم يجلب سوى مزيد من الاستباحة والمهانة؟
ورغم كل الألم، تبقى الحقيقة المؤكدة أن الصحوة قادمة، ولو بعد حين. التاريخ يعلّمنا أن كل زلزال يولّد ناجين، وأن كل جريمة تفتح نافذة للوعي. لقد انكشفت (إسرائيل) أمام العالم، وبدت أقرب إلى حقيقتها: كيان عدواني هشّ، يعيش على قوة الآخرين، ويهتز أمام أي مقاومة صلبة.
—الخلاصة: قصف قطر لم يكن عملية عسكرية فحسب، بل حدث مفصلي يكشف حجم المخطط وخطورة المرحلة. لكنه في الوقت ذاته قد يكون الشرارة التي تسرّع ولادة وعي عربي جديد، يميّز بين الوهم والحقيقة، ويضع الأمة أمام مسؤولياتها التاريخية.
فاتنة – لبنان