✍️رامي الشقرة
رئيس معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية.

منذ عقود، شكّل الوعي أحد أهم ميادين الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي. وإذا كان الاحتلال قد نجح في فرض هزائم عسكرية وسياسية متكررة على الواقع الفلسطيني والعربي، فإنه لم ينجح دومًا في تثبيت تلك الهزائم كـ”وعي جمعي” نهائي. ومن هنا تبرز أهمية التمييز بين الهزيمة كواقعة موضوعية وبين الترويج للهزيمة كسردية موجهة. فالأولى تُقاس بموازين القوى وظروف اللحظة، أما الثانية فهي معركة على الذاكرة والمعنى والروح.

الهزيمة في إطارها التاريخي والسياسي هي خسارة ميدانية أو سياسية يفرضها ميزان القوة في مرحلة محددة. قد تتمثل في فقدان أرض أو موقع استراتيجي أو ارتفاع الكلفة البشرية أو المعيشية أو حتى إخضاع المقاومة لتراجع تكتيكي أو قبول تسوية قسرية.

لكن التاريخ الفلسطيني والعالمي يثبت أن الهزائم ليست نهاية المشروع التحرري؛ فالانتفاضات المتعاقبة، وتجربة المقاومة اللبنانية، وحتى التجربة الفيتنامية، تشهد أن الهزيمة قد تكون مرحلية إذا ما تحوّلت إلى رافعة لإعادة التنظيم وتطوير أدوات المقاومة.

لذلك نرى أن الاحتلال لا يكتفي بالانتصار العسكري، بل يسعى إلى تثبيت صورة مهزومة في المخيال الفلسطيني والعربي. وهنا تتحول الهزيمة إلى “سردية” يجري تكريسها عبر:
1. الإعلام بتضخيم الخسائر وإخفاء الإنجازات.
2. الخطاب السياسي المحلي وتبنّي مقولات “العبثية” و”اللاجدوى”.
3. الحرب النفسية بإقناع المجتمع أن المقاومة لا تقود إلا لمزيد من الدمار.
4. الانقسام الداخلي وتوظيف لحظات الضعف لإنتاج شعور بالعجز البنيوي.

بهذا المعنى، يصبح الترويج للهزيمة أخطر من الهزيمة نفسها، لأنه يحوّل خسارة مرحلية إلى وعي مستدام بالانكسار، ما يُفرغ أي إمكانية للنهوض.

في سياق “طوفان الأقصى”، ورغم الكلفة الإنسانية والجغرافية الهائلة، حافظت المقاومة على قدرتها على المناورة الميدانية وعلى إنتاج سردية الصمود. لكن، في مقابل ذلك، برز خطاب داخلي وخارجي يروّج بأن ما حدث لا يعدو كونه “انتحارًا جماعيًا”، وأن الشعب الفلسطيني “محكوم بالهزيمة”. هذه الثنائية تكشف أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الرواية:
• هل الطوفان كشف مأزق المشروع الصهيوني وأعاد الاعتبار لفعل المقاومة؟ أم أنه لحظة انكسار كبرى؟

الجواب يتحدد بمن ينجح في إنتاج وتثبيت سرديته في الوعي العام.

لذلك الوعي المقاوم لا ينكر الخسائر ولا يتجاوز الآلام، لكنه يرفض تحويلها إلى قدرية استسلامية. ولأجل ذلك، ثمة حاجة إلى:
1. إعادة تأطير الخسائر باعتبارها أثمانًا طبيعية في معركة التحرر.
2. إبراز منجزات المقاومة في تعطيل المشروع الصهيوني وتغيير معادلات الردع.
3. مواجهة خطاب العبثية بخطاب نقدي عقلاني يوازن بين الكلفة والجدوى.
4. إنتاج رواية فلسطينية بديلة تعكس الصمود والتعلم من التجربة بدل الانكسار.

إن الفرق بين الهزيمة والترويج للهزيمة هو الفارق بين حدث يمكن تجاوزه، وبين سردية قد تستبطنها الأجيال وتشلّ قدرتها على المقاومة. ولذا، فإن جوهر المعركة اليوم لا يكمن فقط في موازين السلاح والسياسة، بل في من يكتب الوعي الفلسطيني: هل نُسجّل أنفسنا كأمة مهزومة، أم كأمة تعرف كيف تنهض من تحت الركام لتواصل طريق التحرر؟

By adam