يواصل الاحتلال “الإسرائيلي”، منذ نحو خمسة أشهر، فرض حصار خانق على قطاع غزة، عبر منع إدخال المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية بشكل كامل، إذ اقتصر دخول السلع على كميات محدودة تُوزَّع عبر بعض المراكز التابعة للمساعدات الأميركية_ “الإسرائيلية”، التي تحوّلت إلى “مصائد موت” بعد أن أودت بحياة المئات منذ افتتاحها قبل شهرين ونصف.

هذا الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزة، فاقم بشكل كارثي الأوضاع المعيشية للسكان، ودفع أكثر من مليوني فلسطيني إلى حافة الجوع والانهيار الشامل، ومع مرور الوقت، لم يعد الجوع خطرًا مستقبليًا، بل واقعًا يوميًا يحصد الأرواح بصمت، ويهدد ما تبقى من مقومات الحياة في القطاع المحاصر.

أطباء: تفشٍ خطير للهزال بين الأطفال

وتتوالى الأنباء المؤلمة عن ارتفاع حصيلة ضحايا المجاعة، إذ استُشهد أكثر من 100 مواطن حتى الآن، بينهم 80 طفلًا، نتيجة سوء التغذية الحاد ونقص المواد الأساسية كالطعام والماء والحليب والأدوية، فيما يترك الأطفال لمصيرهم بين أنين الجوع وأحضان أمهات لا يملكن شيئًا سوى الدعاء، كما تغيب أي استجابة دولية فعالة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كارثة إنسانية تتسع رقعتها كل يوم.

لم يكن الحصار وحده سبب الكارثة الإنسانية في غزة، بل زادها تفاقمًا تفشي الفوضى وظهور سماسرة الحرب الذين احتكروا المساعدات وحوّلوها إلى تجارة رابحة لفئة تملك النفوذ والسلاح، وسط غياب العدالة في التوزيع وعمليات نهب ممنهجة لما يدخل من إغاثات.

وفي ظل هذا الواقع، تعيش آلاف العائلات في العراء وتفترسها المجاعة، فيما يشير أطباء إلى تزايد حالات “الهزال الحاد” بين الأطفال، وولادات لأطفال منخفضي الوزن نتيجة نقص الغذاء، أما الحليب، بات حلمًا، والخبز رفاهية لا تُنال إلا بشقّ الأنفس بعد تضاعف ثمنه عشرات المرات.

من نُطعم ومن نترك جائعًا؟

المواطنة تهاني عبد العال تجلس أمام خيمتها المهترئة قرب إحدى مدارس الإيواء في مدينة غزة، تحيط بطفلها الأصغر، أيمن (4 سنوات)، وتحاول تهدئته رغم بكائه المستمر من شدة الجوع، فيما وجه الطفل الشاحب ونظراته الزائغة تختصر معاناة مئات آلاف الأطفال في القطاع المحاصر، الذين بات الجوع رفيقهم اليومي، في وقتٍ لم تعد فيه الأمهات قادرات على تأمين ما يسد رمقهم، بعد نفاد كل المواد الغذائية المتوفرة.

تقول عبد العال لـ “بوابة الهدف“، وهي تحتضن طفلها المتعب من الجوع: “طفلي يبكي طوال اليوم من شدة الجوع، ولا أملك ما أُطعمه، لا خبز، لا حليب، ولا حتى جرعة ماء نظيفة نُسكت بها عطشه”، مضيفةً بحرقة: “والله لم يبقَ في خيمتي شيء، حتى العدس الذي كنا نطحنه ونسلقه قد نفد، ونقضي كل يوم في انتظار مساعدة قد لا تصل أبدًا، فالمساعدات تُنهب، والأسعار مرتفعة، ولا مصدر دخل لدينا”.

وتشير إلى أن أطفالها لا يتوقفون عن البكاء بسبب الجوع الذي لا يفارقهم، نتيجة نفاد المواد الغذائية الأساسية، وحتى المعلبات غير الصحية التي كانت تعتمد عليها رغم مضارها، اختفت تمامًا، كما اختفى الدقيق وجميع مكونات الوجبات البسيطة، مهما كانت صغيرة أو محدودة.

وتتابع: “حين تتوفر وجبة بسيطة، بالكاد تكفي أحد أطفالي الثلاثة، وأحيانًا أطبخ قليلًا من الأرز إن وجد، فأقف حائرة مَن أطعم، ومَن أُرسله إلى النوم جائعًا؟”، مبينةً أنّ “ابني الأكبر صار يدرك فداحة ما نعيشه، يقول لي: ماما، خلّي الأكل لأخويا الصغير، فأصمت، وأكتم بكائي داخلي”.

فقدان الوزن وخشية الفقد

النازحة من شمال غزة، سعاد الصفدي، أم لستة أطفال، تروي تفاصيل يومها المؤلم، قائلة: “لم نتمكن اليوم إلا من تناول كمية ضئيلة من العدس، بلا زيت أو ملح، وفي الليلة الماضية غليت لهم ماءً مع قليل من الزعتر، وقدمتها لهم قبل النوم لعلي أخفف عنهم وطأة الجوع والبكاء”.

وتضيف الصفدي في حديثها لـ “الهدف” بمرارة: “لم نعد نفكر في تحضير أطباق فاخرة أو وجبات شهية، بل أصبح هدفنا الوحيد إيجاد لقمة بسيطة تبقينا على قيد الحياة وسط هذه المجاعة القاسية التي تحاصرنا بلا رحمة، نحن وأطفالنا “، مشيرةً إلى أنّها يتابعون الأخبار يوميًا بحذر وقلق، يعلقون آمالهم على وصول المساعدات وفتح المعابر، على أمل الحصول على طرد غذائي أو حتى فرصة لشراء كمية قليلة من الطعام.

وترفع الصفدي بصرها إلى أطفالها النحفاء، وتقول بأسى: “أبنائي فقدوا الكثير من وزنهم، ولا أملك طعامًا بسيطًا لهم، وأخشى أن أفقدهم بسبب الجوع القاتل”، موضحةً أنّ الواقع المرير دفعها إلى اللجوء للسوق السوداء لشراء كميات قليلة بأسعار مرتفعة تفوق طاقتها، مما يزيد من صعوبة تأمين لقمة العيش لأطفالها.

سوء التغذية يحصد الأرواح

وتواصل المجاعة في غزة حصد المزيد من الأرواح، وسط صمت عالمي مخزٍ، فقد نقلت تقارير ميدانية شهادات صادمة عن رضّع فارقوا الحياة بعد أيام من اعتمادهم على مشروبات عشبية فقط، نتيجة انعدام الحليب الصناعي والنقص الحاد في المواد الغذائية الأساسية، حتى للأمهات المرضعات.

وفي هذا السياق، أعلن مدير مستشفى الشفاء في غزة، الدكتور محمد أبو سلمية، عن ارتفاع عدد ضحايا المجاعة خلال الـ 24 ساعة الماضية إلى 25 شهيدًا، ليصل إجمالي الوفيات المرتبطة بالجوع وسوء التغذية إلى 101 حالة، بينهم 80 طفلًا، محذراً من أنّ غزة على أبواب كارثة إنسانية أكبر، وأرقام الوفيات مرشّحة للارتفاع بسبب سياسة التجويع الممنهجة.

وأكد أبو سلمية في تصريح صحفي، أنّ 900 ألف طفل في غزة يعانون من الجوع، من بينهم 70 ألفًا دخلوا بالفعل في مرحلة سوء التغذية، مشددًا على أن حياة مرضى السكري والكلى في خطر بالغ، إذ يتعرضون لنوبات صحية حادة ناجمة عن نقص الغذاء والدواء.

تحذيرات أممية: التجويع يفتك بغزة والإغماء مشهد يومي

ووسط تحذيرات أممية متصاعدة من كارثة إنسانية في قطاع غزة، تؤكد الوقائع أن سياسة التجويع باتت سلاحاً فتاكاً يستهدف المدنيين، وفي مقدمتهم الأطفال، إذ تشير بيانات حديثة إلى أن أكثر من مليون طفل يواجهون خطر الجوع، بينما يعاني أكثر من 70 ألفاً منهم من سوء تغذية حاد، وفق تقارير “أونروا” و”يونيسف”.

وتقول “أونروا” إنّ مشاهد الإغماء من الجوع باتت يومية في شمال القطاع، حيث يسقط المواطنون أرضاً أثناء انتظارهم المساعدات التي يمنع وصولها بسبب القيود “الإسرائيلية” المشددة، أما منظمة الصحة العالمية، فقد حذرت من تفاقم الأزمة، مؤكدة أن أكثر من 100 ألف طفل وامرأة حامل يعانون من مستويات حرجة من سوء التغذية.

ووفق وزارة الصحة في غزة، استشهد أكثر من 900 فلسطيني، بينهم 80 طفلاً، جراء الجوع وسوء التغذية منذ بدء العدوان، فيما أصيب نحو 6 آلاف آخرين أثناء محاولاتهم البحث عن الغذاء، ومع عجز العائلات عن توفير وجبة واحدة يومياً، يعيش أطفال غزة بين الحياة والموت.

وأشارت وزارة الصحة في وقت سابق إلى توافد أعداد غير مسبوقة من المواطنين المجوّعين من مختلف الأعمار إلى أقسام الطوارئ بحالات إعياء شديد، محذّرة من أن المئات باتوا مهدّدين بالموت نتيجة الجوع وتراجع قدرة أجسادهم على الصمود.

أحمد زقوط -غزة

بوابة الهدف الإخبارية