هذا العالمُ ليس كياناً ثابتاً أو موحَّداً ، بل إنَّه مسرحٌ للتحولاتِ المستمرَّةِ التي تدفعها ديناميكيةُ الصراعاتِ التي تجري عليه ، و هذا الأمرُ لا يحتاجُ إثباتاتٍ أو حججاً ، فبنظرةٍ بانوراميةٍ سريعةٍ على مجرياتِ التاريخِ يمكنُ ملاحظةُ ذلك ، و مما لا شكَّ فيه أنَّنا نعيشُ اليومَ تحوُّلاً آخرَ،  لكنَّه مختلفٌ كلياً عمّا ذُكِر  في التاريخِ المعاصرِ و القديمِ .
لقد سادَ سابقاً واقعُ القطبِ الواحدِ المسيطرِ ، و لكن حتى هذه السيطرةُ لم تكنْ فكرةً ثابتةً ، بل إنَّها أيضاً خضعتْ لديناميكيةِ الصراعاتِ و أخذَت أشكالاً عدّةً ، إضافةً إلى أنَّها خضعَت لطبيعةِ القطبِ المسيطرِ و هي طبيعةٌ نسبيَّةٌ تحتكِمُ للرؤى العقائديةِ و الإنسانيةِ .
سابقاً مثلاً كانَتْ السيطرةُ تأخذُ طابعاً عسكرياً ، فالحكمُ كان للأقوى عسكرياً ، ثم تتبعُ السيطرةَ العسكريَّةَ سيطرةٌ سياسيةٌ و اقتصاديةٌ و اجتماعيةٌ …إلخ  ، و الأمثلةُ على ذلك كثيرة في سجلِّ التاريخِ و لن نتطرقَ لذكرِها … .
الآن السيطرةُ يمكنُ أن تأخذَ طابعاً اقتصادياً ، أو طابعاً سياسيَّاً ، أو عسكريَّاً أو غيرَها ثم تتبعُها الجوانبُ الأخرى،  و ذلك بسبب تطوُّرِ مفهومِ القوّةِ و اتِّخاذه أشكالاً جديدةً .
و لأنَّنا معنيون بفهمِ زمانِنا ، يجبُ أن نفهمَ و ندركَ التحولاتِ الإقليميَّةَ و الدوليَّةَ الجاريةَ ، و ندرسَ أسبابَها و نعيَ طبيعتَها الآنيةَ .
-خطةُ القطبِ الأميركيّ المهيمنِ ، نشأتُها و تداعياتُها :
عند بروزِ القوّةِ المهيمنةِ المسيطرةِ، يميزُ العزيزُ من الخانعِ  ، فيرى البعضُ أنْ لا ملجأَ من تلك القوةِ إلّا إليها ،  ثمَّ يصبحون عبيداً بيدِها  كحجارةِ الشطرنجِ تحرِّكُها كيف تشاءُ ، و مثالُ ذلك الغربُ الخانعُ للهيمنةِ الأمريكيَّةِ .
و في الطَّرفِ الآخرِ ينهضُ العزيزُ من تحتِ الرُّكامِ بفكرِه المقاومِ ليجابهَ ذلك الجبروتَ الطاغيَ ،  و يجسِّدُه محورُ المقاومةِ و حلفاؤه الدوليُّون و الإقليميُّون …
نكادُ نجزمُ أنَّ مخطَّطَ جعلِ أميركا قطباً مهيمناً واحداً ، لم يكنْ وليدَ لحظَتِه ، بل كانَتْ خطةً مدروسةً على مدىً طويلٍ ، ولا يخفى على أحدٍ أنَّ السياسةَ التي تتبعها الدولةُ الصهيونيّةُ العميقةُ المتمثّلةُ في الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ بعدمِ خوضِ الحروبِ في أراضيها ، إضافةً إلى زجِّ فرعٍ آخرَ لها يمثِّلُها في منطقةِ الصّراعِ و هو الكيانُ الصهيونيُّ ، هو ما  جعلَها قطباً واحداً مسيطراً ، خاصّةً بعد نجاحِها باستخدامِ دولِ  الغربِ الأوروبيِّ  الخانعين لها  في تفكيكِ الاتّحادِ السوفييتيِّ .
و ما كان سيرسِّخُ هيمنتَها هو المشروعُ الأخيرُ الذي صدَّرتْه و أرادَتْ مرورَه في المنطقةِ و هو ما سُمِّي ب “الربيع العربي” ، باستخدامِ استرتيجيةِ الحروبِ البديلةِ ، أي أنَّها لم تكتفِ بخوضِ حروبِها في أراضٍ بعيدةٍ عنها و حسب  ،  إنّما أوجدت أيضاً مَنْ يحاربُ عنها في تلك المناطقِ ، و ينفِّذُ ما ترسمُه من خططٍ .
هذا المشروعُ فشلَ على الأراضي السوريةِ ، و هو ما احتاج إفشالُه سنواتٍ كثيرةً تخلَّلها بذلٌ كبيرٌ لدماءِ السوريين و أرواحِهم  من الجيشِ الباسلِ و الشّعبِ الصّامدِ الأبيّ ، إضافةً إلى دعمٍ و إخلاصٍ كبيرٍ من حلفاءٍ رأوا في سوريا المشروعَ الكفءَ لهزيمةِ الهيمنةِ الأميركيةِ ، و هو ما بيَّنَه صمودٌ أسطوريٌّ قادَه سيادةُ الرئيسِ بشار الأسد بحكمةٍ منقطعةِ النظيرِ معتمداً على بأسِ و رباطةِ جأشِ رجالِه في الجيشِ العربيِّ السوريِّ و صبرِ و كرمِ شعبِه الوفيّ الأبيّ  ، و ذلك كلُّه أدّى إلى استقطابِ حلفاءَ دوليين أوفياءَ مخلصين.
سوريا أدركَت أن لا مجالَ لهزيمةِ القطبِ الأميركيِّ إلّا بهزيمةِ مشاريعِه ، و هو ما عملَت و تعملُ عليه ، إذ نجحتْ معَ حلفائِها المخلصين ،و  بتكتيكٍ استراتيجيٍّ مذهلٍ في إخضاعِ مشروعِ الحروبِ البديلةِ و إفشالِه في قلبِ  أراضيها ، وذلك بعدما استخدمَ العدوُّ كلَّ المقدراتِ  التي يمكنُ استخدامُها لإنجاحِ هذا المشروعِ ، و عليه فإنَّ سورية لم تنتصر على الجماعاتِ الإرهابيةِ التي استقطبَها الأميركي إليها من أكثرَ من مئةٍ و ثلاثين دولةً  فقط ، و إنَّما  انتصرتْ على مشروعِ الحروبِ البديلةِ المركَّبةِ الأمريكيةِ ،  فهو انتصارٌ على  فكرةِ الحربِ بأداةِ الجماعاتِ الإرهابيةِ و على أيِّ فكرةٍ جديدةٍ مستقبليَّةٍ لاستقطابِ هكذا جماعاتٍ مجدداً ،   و هذا هو  عبارةٌ عن قطعِ أكثرَ من نصفِ الطريقِ نحوَ هزيمةِ العدوِّ الأميركيِّ الأصيلِ هزيمةً كليَّةً.
نجمتْ عن انتصارِ سورية تداعياتٌ عدّة تصبُّ جميعُها في الصالحِ المعادي للهيمنةِ  الأميركيَّةِ ، أهمُّها نقلُ الصراعِ من الأراضي العربيةِ  إلى عمق الفرعِ الأميركي التنفيذي الوكيلِ في المنطقة “كيان إسرائيل” ، بالإضافة إلى تعاظمِ الأقطابِ الجديدةِ متمثّلةً في روسيا و الصين و كوريا الشمالية و إيران ، و هذا مشروعٌ مضادٌ صدّرَه الانتصارُ السوريُّ متمثلٌ في نقلِ العالم من صورته القطبية الأحادية إلى عالمٍ متعددِ الأقطابِ .
لكنَّ القطبَ الأميركي بقيَ يحتفظُ بورقةٍ واحدةٍ و هي الفرعُ الإسرائيلي  ، و هو ما  لم ينفكّ محورُ المقاومةِ يقتلعُه من جذورِه الآنَ من خلالِ أحداثِ طوفانِ الأقصى .
و على ذلك  تعدُّ معركةُ طوفانِ الأقصى التي تدورُ رحاها  في الأراضي الفلسطينية المحتلة الآن معركةً وجوديةً ليس بالنسبةِ للكيانِ فقط و إنّما بالنسبة للقطب الأميركي الواحد أيضاً ، و الذي كان قد أسسَ هيمنته على الركائز الوجودية التالية:
أولاً و أهمّها : إنشاءُ فرعٍ أمريكيّ تنفيذيٍّ وكيلٍ في منطقةِ الوطنِ العربيِّ و هو الكيانُ الصهيوني .
ثانياً : إشغالُ الشعوبِ الذين يمتلكون نزعةَ المقاومةِ في مشروعِ حروبٍ بديلةٍ تحت مسمياتٍ خبيثةٍ و هو “الربيع العربي” .
ثالثاً : التحكُّم بقراراتِ الدولِ الأوروبيةِ الغربيةِ و تحريكُهم بما يخدم المصالحَ الأميركية الأصيلة أو الأميركية الوكيلة .
رابعاً : الهيمنةُ الاقتصاديةُ على العالمِ من خلال فرضِ العقوباتِ و الحصاراتِ الاقتصاديةِ على كلٍّ الدولِ التي تمتلك نزعةَ التمرّدِ و المقاومةِ ، إضافةً إلى الدولِ التي تمتلكُ مقوماتِ القوةِ الاقتصاديةِ ، و احتكارُ الأسواقِ و فرضُ البضائعِ الأميركيةِ على بقيّةِ الدولِ الخانعةِ .

خامساً : ترهيبُ الشعوبِ و الدولِ و زرعُ فكرةِ القوةِ الأميركيةِ التي لا يمكن التمرّدُ عليها ، و خاصّةً بعض دولِ أفريقيا و أميركا اللاتينية و آسيا الشرقية ، و من ثمَّ زرعُ القواعدِ الأميركيةِ في تلك الدولِ مما يجعلُها دولاً بحكمِ المحتلَّةِ أميركياً .
البندُ الثاني سقطَ بكلَّيتِه في الأراضي السوريّةِ كما أوضحنا سابقاً ، و سقوطُه فتحَ الطريقَ للعملِ على تصديرِ مشاريعَ مضادّة للركائزِ الباقية و هي التالي :
أولاً : مشروعُ طوفان الأقصى في فلسطين مضادٌ للمشروعِ الصهيونيّ .

ثانياً : مشروعُ العمليةِ العسكريةِ الروسيةِ في أوكرانيا مضادٌ لمشروعِ السيطرةِ على القراراتِ  و المقدراتِ الغربيةِ لتصبحَ  محررةً عن الإرادة الصهيوأمريكية  .

ثالثاً : مشروعُ السوقِ المشتركةِ بين الحلفاءِ مضادٌ لمشروعِ العقوباتِ الاقتصاديةِ  الأميركيةِ .

رابعاً : مشروعُ التجارة بالعملةِ الوطنيّةِ لكلِّ دولةٍ جزئياً أو كليّاً بدلاً من الدولار الأميركي  و هو ما قامَت به سوريا و الصين و روسيا و دولٌ كثيرةٌ غيرها  ، إضافةً إلى مشاريعَ أخرى في هذا السياقِ  كمشروع  فرضِ الدفع بالروبل الروسي على الدول الأوروبية المعادية لروسيا مقابلَ وارداتِ الغاز ، و هذه المشاريعُ جميعها مضادٌ للهيمنةِ الاقتصاديةِ الأميركية .
كل ذلك أدى إلى كسر شوكةِ الأميركي و تشويهِ صورةِ قوتِه و جبروتِه  ، ما شجع على بدايةِ ظهورِ أصواتٍ متمرّدةٍ من دولٍ أفريقية و آسيوية ولاتينية تقولُ لا للعنجهية الأميركية …
و عليه فإن مشروعَ التعدديةِ القطبيةِ الذي صدَّره انتصارُ سورية أنتجَ مشاريعَ مضادةً لكلِّ ما  أُسِّسَ عليه القطبُ الأميركيُّ ، و انتصارُه يعني زوالَ فكرة القطب الأميركي المسيطر و مشاريعه زوالاً كلِّياً لا عودة فيه ، و هو ما يعمل عليه محور المقاومة و حلفاؤه ، و يتحملون مشاقه و يقدّمون في سبيله الدماءَ و الأرواح .

محمد يونس – سوريا