خالد دراوشة

المقدمة

لقد شهدت العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ نشأة الكيان الصهيوني في عام 1948 سلسلة من التحولات الكبرى التي لم تكن محض ردود فعل على تهديدات أمنية تقليدية، بل ارتبطت بتحولات بنيوية أعمق في الاقتصاد السياسي والأيديولوجيا الصهيونية. فبينما بدأت العقيدة الأمنية على أساس مفهوم “إدارة المعركة” والتعامل مع التهديدات من خلال استراتيجية دفاعية وهجومية محدودة، فإن السياق الجيوسياسي والديمغرافي المتغير، وتنامي المقاومة الفلسطينية، دفعا بالمؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل إلى تبني ما يمكن وصفه بـ”منطق الحرب الوجودية”، وهي حرب لا تستهدف فقط الردع أو الاحتواء، بل تسعى إلى إلغاء العدو، وجوداً وحقوقاً، بل وحتى سردية.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذا التحول من منظور الاقتصاد السياسي للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، من خلال تناول المسار التطوري لمفاهيم الحرب والدفاع في الفكر الاستراتيجي الصهيوني، وربطها بالبنية الاقتصادية والديمغرافية للكيان الإسرائيلي، مع الاستفادة من المرجع الأيديولوجي العنيف المتمثل في كتاب مائير كاهانا The Must Go، الذي يطرح تصوراً صارخاً لما يعتبره “الحل النهائي” للمشكلة الفلسطينية.

أولاً: من العقيدة الدفاعية إلى الهجوم الوقائي

تأسست العقيدة الأمنية الإسرائيلية على يد ديفيد بن غوريون الذي اعتبر أن بقاء الدولة العبرية في محيط عربي معادٍ يتطلب استراتيجية أمنية ثلاثية الأركان: الردع، الإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض العدو. وبذلك لم يكن الدفاع الإسرائيلي تقليديًا، بل متمحورًا حول الوقاية المسبقة وضرب البنى التحتية للعدو قبل أن يبدأ الهجوم.

مع مرور الوقت، وبخاصة بعد حرب أكتوبر 1973، أدركت إسرائيل محدودية قدراتها في حروب الجبهات التقليدية، فبدأت تتجه نحو تطوير ما يسمى بـ“الردع الديناميكي” الذي يشمل شن هجمات محددة ضد ما تعتبره بنى تحتية للإرهاب.

إلا أن هذا التوجه لم يعد كافيًا مع بروز المقاومة غير النظامية في لبنان، ومن ثم في فلسطين بعد الانتفاضة الثانية، حيث لم يعد من الممكن التعامل مع “عدو” يُخفي نفسه وسط السكان، ويستخدم أدوات غير تقليدية. عندها، بدأ التحول نحو عقيدة جديدة تدمج بين الأمن والسيطرة الديمغرافية، وبين الهجوم الاستباقي والردع من خلال العقاب الجماعي.

ثانياً: الحرب الوجودية كإطار أيديولوجي

تشكل الأيديولوجيا القومية والدينية الصهيونية عنصرًا حاسمًا في صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية. في هذا السياق، يعد كتاب The Must Go لمائير كاهانا نموذجًا مكثفًا للفكر الصهيوني الذي ينظر إلى العرب، والفلسطينيين خصوصًا، كتهديد وجودي دائم لا يمكن التعايش معه.

يقول كاهانا إن على العرب “الرحيل” لأن وجودهم يتناقض مع جوهر الدولة اليهودية، ويرى أن الديمقراطية والليبرالية لا يمكن أن تكون أدوات لبقاء إسرائيل إذا تعارضت مع “الهوية اليهودية”.

هذه الرؤية الإقصائية التي كانت تُعد متطرفة في الثمانينيات، أصبحت في العقدين الأخيرين جزءاً من التيار السائد، خاصة مع صعود اليمين الصهيوني القومي والديني إلى الحكم. أصبحت مفردات “الترحيل”، و“تغيير الواقع الديمغرافي”، و“تصفية البنية التحتية للإرهاب”، مقبولة ضمنيًا في الخطاب الرسمي. هذا الانزلاق من منطق المعركة المحددة إلى الحرب الوجودية يشير إلى تغير عميق في تصور إسرائيل لهويتها وموقعها في الإقليم.

ثالثاً: الاقتصاد السياسي للحرب الوجودية

لا يمكن فهم تحولات العقيدة الأمنية الصهيونية بمعزل عن السياق الاقتصادي والسياسي العالمي، ودور إسرائيل فيه كفاعل مرتبط بالبنية العسكرية الرأسمالية. فإسرائيل، على سبيل المثال، أصبحت من كبار مصدّري الأسلحة على مستوى العالم، وتستخدم الحروب كمختبر ميداني لاختبار فعاليتها.

كل عملية عسكرية في غزة، أو حرب في لبنان، تُقدَّم لاحقاً كدعاية تسويقية لشركات السلاح الإسرائيلية. كما أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بمساعدات عسكرية ضخمة تُستخدم ليس فقط لحماية الحدود، بل لإدامة ميزان القوة ولضمان تفوق إسرائيل النوعي في كل المجالات.

بهذا المعنى، تصبح الحرب جزءًا من الاقتصاد السياسي الإسرائيلي، ويتحول الأمن إلى قطاع إنتاج وتصدير، ما يدفع باتجاه تطوير عقيدة لا تستهدف فقط حماية السكان، بل استثمار الصراعات وتعميقها بما يخدم مشاريع الربح والسيطرة.

رابعاً: الاستيطان والتحكم الديمغرافي كأدوات أمنية

يرتبط منطق الحرب الوجودية بشكل وثيق بالسياسات الديمغرافية الصهيونية. فالاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وسحب الهويات، ومنع لمّ الشمل، وسياسات الطرد الصامت، كلها أدوات لا تُمارَس بدوافع قانونية أو سياسية فقط، بل ضمن تصور أمني يعتبر الفلسطيني “قنبلة موقوتة”.

في القدس مثلًا، تشير السياسات الإسرائيلية إلى رغبة في خفض نسبة الفلسطينيين إلى أقل من 30% من سكان المدينة. وتُستخدم أدوات مثل هدم المنازل، وتقنين التراخيص، وسحب الهويات، في سياق الأمن القومي.

يُعيد هذا الوضع إنتاج مفاهيم كاهانا التي ترى أن “العرب خطر ديمغرافي”، وهو ما ينعكس في الخطاب الرسمي، الذي يربط بين الكثافة السكانية العربية وبين العنف والإرهاب.

خامساً: عملية طوفان الأقصى وانكشاف المأزق الأمني

جاءت عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، لتشكل نقطة تحول مركزية في مسار العقيدة الأمنية الإسرائيلية. فالهجوم الذي استهدف العمق الإسرائيلي، وكسر الحصون الأمنية الإلكترونية والعسكرية في غلاف غزة، بيّن هشاشة المنظومة الأمنية التي طالما تفاخر بها قادة الكيان.

ردت إسرائيل بشراسة غير مسبوقة، استهدفت خلالها المدنيين والبنية التحتية في غزة بشكل مباشر، في تجلٍ صارخ لما بات يُعرف بـ”عقيدة الحسم الوجودي”، حيث يصبح كل الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً، أهدافًا في ساحة المعركة.

وقد تجاوز الخطاب الرسمي مرحلة “محاربة الإرهاب” إلى تبني مصطلحات مثل “المحو”، و“التطهير”، و“الضرب في العمق”. هذه المفردات، التي كانت في الماضي جزءاً من الأدبيات المتطرفة، أصبحت تعبر عن الإجماع السياسي والعسكري الإسرائيلي.

سادساً: تحليل نقدي: مأزق العقيدة الأمنية الإسرائيلية

رغم التفوق العسكري والتكنولوجي، إلا أن إسرائيل تعاني من مأزق بنيوي في عقيدتها الأمنية. فكل انتصار عسكري يُنتج مقاومة أوسع، وكل محاولة لـ”الإبادة الرمزية” للفلسطينيين تُقابل بصمود متجدد.

والأخطر من ذلك، أن الحرب الوجودية تُعيد تعريف الفلسطيني لا كخصم سياسي، بل كـ”عدم يجب محوه”، وهذا التحول يحمل تداعيات استراتيجية على إسرائيل نفسها. إذ أن مجتمعًا يُؤسس أمنه على الخوف والتفوق والتطهير لا يستطيع بناء سلام داخلي أو شرعية ديمقراطية.

لقد تحولت إسرائيل من دولة تسعى إلى “الحفاظ على وجودها” إلى كيان يرفض وجود الآخر، ما يجعلها رهينة لمنطق القوة إلى الأبد. ويُعيد هذا المنطق إنتاج سياسات استعمارية لم تعد مقبولة دوليًا، مما يضع إسرائيل في مواجهة دائمة ليس فقط مع محيطها، بل مع قيم الحداثة والشرعية الدولية.

الخاتمة

تُظهر هذه الدراسة أن التحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية من منطق المعركة إلى منطق الحرب الوجودية هو انعكاس لتطورات أعمق في بنية المشروع الصهيوني نفسه. فإسرائيل لم تعد تعتبر الحرب وسيلة لتحقيق الأمن، بل أصبحت غاية في ذاتها تُستخدم لضمان التفوق والهيمنة.

ويكشف تحليل الاقتصاد السياسي لهذا التحول أن الحرب، والاستيطان، والتفوق التكنولوجي، ليست فقط أدوات أمنية، بل هي محركات لبنية اقتصادية وسياسية كاملة تقوم على الاحتلال والإقصاء.

من هنا، فإن استمرار هذا المنطق سيؤدي إلى انزلاق إسرائيل في صراعات لا نهائية، وإلى إغلاق باب أي حل سياسي، ويجعل من الحرب الخيار الوحيد، لا لأنها ضرورية، بل لأنها مربحة ووجودية في نظر من يتبنون عقيدة كاهانا.

المراجع

  1. Cohen, S. (1995). The politics of strategic doctrine: Israeli military Ben-Gurion, D. (1971). Israel: A personal history. Funk & Wagnalls.
  2. thinking. Sussex Academic Press.
  3. Finkelstein, N. (2003). Image and reality of the Israel-Palestine conflict (2nd ed.). Verso.
  4. Gordon, N. (2008). Israel’s occupation. University of California Press.
  5. Kahane, M. (1981). They Must Go. Western Islands.
  6. Kimmerling, B. (2003). Politicide: Ariel Sharon’s war against the Palestinians. Verso.
  7. Pappé, I. (2006). The ethnic cleansing of Palestine. Oneworld Publications.
  8. Peleg, I. (1997). Human rights in the West Bank and Gaza: Legacy and politics. Syracuse University Press.
  9. Shlaim, A. (2001). The iron wall: Israel and the Arab world. W. W. Norton & Company.
  10. Tal, D. (2004). War in Palestine, 1948: Strategy and diplomacy. Routledge.
  11. Zertal, I., & Eldar, A. (2007). Lords of the land: The war over Israel’s settlements in the occupied territories, 1967–2007. Nation Books.

خالد دراوشة