أكثر من ثلاثمائة يوم من الموت مرت على غزة، اليومُ الواحد فيها يحمل من الآلام ما تحتاج إلى أجيالٍ لنسيانه. ويضج الشارع العربي باستمرار، وكأن الذي يحدث في غزة هو إعصارٌ مدمرٌ أو زلزال، أو كأنه حادثٌ كارثيٌّ عرضي بفعل الطبيعة. والآن وبعد هذه المدة الزمنية الطويلة من مراقبة هذا الحدث الطارئ، والطارئ جداً، يقوم الكيان المحتل بمجزرة وقتَ صلاة الفجر، ليقتل أكثر من مئة مصلٍّ ويجرح العشرات في جريمةٍ بشعة، ونحن هنا لدينا من الوقت الكثير، ومن الترف الكثير، لنطلق عليها اسمَ مجزرة الفجر، ولنروج لهذا الألم “إعلامياً” وكأننا نسير نحو تطبيعٍ للجريمة، يأخذ شكلاً محدداً من ردة الفعل المتكررة.
ينظر الفرد حوله لا يجد أمامه من السبل شيئاً، فالحالة طارئة، وأهل غزة تحت القصف، والوعي متقطعٌ بحسب المكان، ففي اللحظة التي تحدث فيها مجزرة، يلاحقُ أحدهم همومه الاقتصادية والمالية، بل وحتى العاطفية والترفيهية، أو يجلس على كرسي الطبيب يصلح أسنانه! وهو على بعد كيلو مترات من هذه المجزرة! ولكن الأمر الذي يجب الانتباه له، أنْ لا أحد في المشهد يقوم بعملية التجييش والتآزر، بينما ردة الفعل أمام مجزرة يجب أن تكون ردة فعلٍ جمعية تستجيب لمشاعر الإنسان وطبيعته.
إن غياب الخطاب الذي يستجيب لطبيعة الإنسان وإحساسه وانتمائه ووطنيته، هو “خيانة” لهذا الإنسان في ذلك المجتمع. ولا أقول كلمة خيانة باندفاعٍ عاطفي – ولا ضير في ذلك – وإنما الخيانة هي خرقٌ للثقة بالتضليل وبالعمل ضد المصالح. فغياب خطاب الطوارئ عند وقوع مجزرة قام بها الكيان الصهيوني، وكان ضحيتها الإخوة في الدم، هو “خيانة” قام بها من يمسك بزمام الخطاب الجمعي، وهذه هي وظيفة القائد الذي يتزعم المشهد ويسيطر عليه. فقائد السفينة الذي يرى الموج عاتياً ويعرف أن جبلاً جليدياً سيصطدم بالسفينة، ولم يخبر ركابها بذلك حتى يستعدوا ويركبوا أطواق النجاة قبل ضياع الوقت، فقد خانهم. لأنه خرق الثقة وضللهم وعمل ضد مصالحهم. وفي الحالة الراهنة التي نشهدها واقعاً، فإن الركاب يشهدون قائد السفينة يراقب الجبل والموج العاتي، وهُم يعرفون الخطر، ويرون قائد السفينة لا يخبرهم بما يجب عليهم فعله، فيصابون بحالة من التشرذم والغضب والتشتّت في البوصلة، حدَّ كراهية الذات للشعور بالعجز. كما فرّ البعض إلى جانب هذا القائد حتى لا يسمع صوته الداخلي! ولكن … هل هناك مفرٌ من الجبل الجليدي والموج العاتي، الذي لا يأبه لا بالسفينة ولا بالقائد.
إن مجتمعاً يعيش حالةً من خيانةٍ في الوعي، عليه أن يدرك قبل أن ينفعل لأي حدثٍ آخرَ في المحيط، حتى لو مجزرة، عليه أن يدرك بأن له معركته الخاصة التي يجب أن يخوضها في سبيل تحرير هذا الوعي من التضليل. لأن غياب القيادة التي تستجيب لطبيعة هذا المجتمع، يعني بأن القيادة التي تسير بمركبه تذهب به إلي حيث لا يريد ولا يرضى. والصورةُ واضحةٌ تتجلى في إباء الشعب اللبناني واليمني، والتفافهما حول القيادة التي توجههما إلى البوصلة التي تستجيب لطبيعتهم كأبناء للأرض. في ذات الوقت الذي تلعن فيه شعوبٌ أخرى ذاتَها لانعدام البوصلة والقيادة.
آدم السرطاوي – كندا