قال وزير الحرب الاسرائيلي، أن المعادلة الجديدة هي “كريات شمونة مقابل بيروت”، وبالفعل قامت إسرائيل بشن عشرين غارة على لبنان وقامت بتدمير مبنى سكني في منطقة الجاموس في الضاحية الجنوبية، رداً على صاروخين تم اطلاقهما من لبنان نحو إسرائيل، سقط احدهما في الاراضي اللبنانية، واعترضت الدفاعات الجوية الاسرائيلية الصاروخ الثاني.

واضح أنه لا يوجد أي تناسب بحجم الرد، ولا بنوعيته، وهذا يؤكّد أن إسرائيل تريد ممارسة الضغط الأقصى على لبنان وحزب الله، لنزع سلاح الحزب، وهي تتخذ من أي حادث بسيط، ذريعة لتبرير أعمالها العدوانية، وخروقاتها للقرار 1701، التي فاقت 1500 خرق منذ إعلان الاتفاق على تنفيذ القرار، باشراف لجنة دولية تقودها الولايات المتحدة الامريكية، ولكنها لم تُحرك ساكناً لوقف الاعتداءات الاسرائيلية.

حتى الآن يستمر حزب الله في الوقوف في المنطقة الرمادية، ويكتفي بالإعلان عن عدم مسؤوليته عن إطلاق الصواريخ، وحتى إسرائيل تدرك أن ليس الحزب هو من أطلق هذه الصواريخ، لكنها تستغل الفرصة لتنفيذ مآرب أُخرى.

لا يستطيع الجيش اللبناني أن يخوض حرباً ضد إسرائيل، وتكتفي الدولة اللبنانية بالتمسك بالشرعية الدولية، ومطالبة الدول الصديقة والراعية للاتفاق، بالضغط على إسرائيل، للتوقف عن انتهاك القرار، ووقف قصفها للبنان، واستكمال انسحابها من الاراضي اللبنانية. لم تنجح المساعي الدبلوماسية في ردع إسرائيل، ويبدو أنها لن تنجح في المستقبل القريب.

لكن إلى متى سيتحمّل اللبنانيون هذا الاذلال، الذي تمارسه إسرائيل عليهم. ففي عام 1982 عندما اجتاحت القوات الاسرائيلية لبنان، وحاصرت العاصمة بيروت، اسقطت في يوم واحد على بيروت، أكثر من 14 الف قذيفة، وقتلت أكثر من 1200 شخص. ثم بعد مدة من الحصار، امتدت من 14 حزيران حتى 21 آب، تم الانفاق على خروج منظمة التحرير الفلسطينية، بحماية دولية، وتعهُّد بأن لا تدخل القوات الاسرائيلية إلى بيروت الغربية، فتم خروج الفلسطينيين في 19 آب لكن إسرائيل لم تأبه بأي تعهدات دولية ودخلت بيروت بعد يوم واحد،ونفذت مع ميليشيات القوات اللبنانية مجزرتي صبرا وشاتيلا.

ظن الإسرائيلي يومها أنه سيطر فعلاً على لبنان، وسعى إلى إقامة نظام موالي له، وراح جنوده يمرحون في بيروت، ثم تفاجؤوا في 24 أيلول في مقهى اللنبي، بشابين أطلقا النار على جنودهم من مسافة متر، فقتلوا جنرالاً واصيب ثلاثة جنود آخرين كانوا برفقته.

لم يكن حزب الله هو منفذ العملية، ولم يكن القرار مركزياً للحزب القومي السوري، بل تم اتخاذ القرار بشكل فردي، من رجال رفضوا الاحتلال الاسرائيلي للبنان، وفتحوا طريق المقاومة لتحرير الأرض.

أدركت إسرائيل فوراً حجم المأزق الذي وقعت فيه، ونفذت انسحاباً سريعاً من بيروت، وجنودها ينادون عبر مكبرات الصوت: “يا أهل بيروت لا تطلقوا النار فنحن راحلون” بهذا الشكل المُذلِّ خرج الجيش الإسرائيلي من بيروت، ثم لاحقاً من كامل الاراضي اللبنانية، بعد أن اشتدّت عليه ضربات المقاومة عام 2000.

الآن تتحدث المبعوثة الاميركية اورتاغوس، عن نية بفتح مسار المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، وتريد توقيع اتفاقية اشبه باتفاق 17 أيار، وهي قالت: أن لبنان خرق الاتفاق (باطلاق الصواريخ التي لم تصل إلى إسرائيل) ولم ترَ اورتاغوس اكثر من 1500 خرق اسرائيلي، وانتهاكها للقوانين الدولية، وارتكاب جرائم ضد المدنيين والأعيان المدنية.

وتطلب اورتاغوس من الجيش اللبناني، حماية إسرائيل ومنع اطلاق الصواريخ، ونزع سلاح المقاومة بالقوة، متناسيةً أن مهمة الجيش اللبناني، هي حماية لبنان من الاعتداءات الاسرائيلية أولاً.

يقول مرجع سياسي أن الشعب الذي أسقط 17 أيار وحرر الجنوب، ما زال موجوداً في لبنان، وإذا كان حزب الله قد تعرّض لبعض الخسائر، فهذا لا يعني أن لبنان انهزم، وبات عاجزاً عن مواجهة الاحتلال، أو أنه سيقبل بالذل والانكسار. وبالعودة إلى حزب الله، فهو وفق الخطاب الأخير لأمينه العام الشيخ نعيم قاسم بمناسبة يوم القدس، ينتظر مؤقتاً، واذا لم تنجح الدولة اللبنانية في تحرير الأرض، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية، عندها سيتخذ الحزب خيارات أُخرى.

يوحي كلام الشيخ نعيم قاسم بأن الحزب يدرس مسألة الرد على الاعتداءات الاسرائيلية لكن يبدو أنه لا يريد أن يفعل ذلك الآن، كي لا يعطي ذريعة لإسرائيل للعودة إلى الحرب، وكي يتجنب لوم القوى السياسية اللبنانية، التي تدعوه للتوقف عن محاربة إسرائيل، وتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني.لكن الحزب مُحرج ويعلم أنه مسؤول أمام جمهوره، عن تضحيات آلاف الشهداء، ولا بد من اتخاذ موقف حاسم، أمام استمرار العدوان الاسرائيلي، وعليه أن يختار أمر من إثنين: فإما أن يستجيب لدعوات الاطراف الداخلية والخارجية، ويُعلن حل جناحه العسكري وتسليم سلاحه للجيش اللبناني، والتحول إلى حزب سياسي، وهذا الخيار ما زال مستبعداً، طالما تحتل إسرائيل أراض لبنانية، ويرى فيه البعض مجازفة كبرى بمصير الحزب والجنوب، لأنه لا أحد يضمن بعد تسليم السلاح، أن تتوقف إسرائيل عن الاعتداء على لبنان، أو أن تسحب قواتها من أراضيه، أو أن لا تتقدم لاحقاً للسيطرة على كامل منطقة الجنوب، كما فعلت في بيروت عام 1982.

أما الخيار الثاني فهو أن يُعلن الحزب اطلاق المقاومة من جديد، والرد على الاسرائيلي باللغة التي يفهمها، وتنفيذ معادلة “المدني بالمدني، وتل ابيب مقابل بيروت” التي كان يرسيها لسنوات.

وهذا الخيار سيكون مكلفاً طبعاً، خاصة في ظل عدم توازن القوى، والتفوق الجوي والتكنولوجي الاسرائيلي، ولكنه برأي البعض أنه أقل كلفة من خيار الاستسلام، وكما نجحت المقاومة في السابق، تستطيع أن تنجح الآن.

لكن النقطة الأهم، هي أن هذا الخيار يخالف شبه الاجماع الوطني، فاغلبية اللبنانيين اليوم، يريدون وقف هذه الحرب، بأي ثمن.

أن مسألة تسليم السلاح للجيش اللبناني، فهي خطوة لا بد منها، لكن المشكلة بالتوقيت، وكما يقول الحزب: فإن إسرائيل ستُقدم على مهاجمة لبنان، وستختلق الحجج والذرائع لاجتياح الجنوب وتنفيذ مشروعها التوسعي؟

يفضل الحزب الآن البقاء في المنطقة الرمادية، بانتظار أن تنجلي بعض الأمور، وهو لا يريد اتخاذ خطوة متسرعة، في أي اتجاه، فمن الواضح أن إسرائيل لا تبحث عن السلام، وما زالت ترفض العودة إلى اتفاقية الهدنة، وتدفع نحو الحرب، تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، عبر احتلال أجزاء من لبنان وسوريا، وربما من دول عربية أخرى.

كلما تفاقمت الازمات داخل إسرائيل، تذهب حكومتها نحو الحرب، ونتنياهو عازم كما قال، على تغيير الشرق الاوسط بالقوة، ويلقى دعماً مطلقاً من ترامب، وهذا يعني بكل بساطة أن الصراع طويل، وإسرائيل اتخذت القرار بالعودة إلى الحرب في غزة ولبنان، وربما على جبهات أُخرى.

اكرم كمال سريوي