ماذا سيفعل ترامب الآن عندما يجد أن الغزيين واليمنيين لا يخافونه؟ فلا غزة ستضيّع أهم أوراقها من دون مقابل، ولا اليمن سيتراجع عن دعم غزة، وخصوصاً بعد الضربات الأميركية. وهذا يعني أن ترامب إما أن يصعّد أكثر، وإما أن يتراجع.
اليمن وغزة يشتعلان، وعين ترامب ونتنياهو على إيرانماذا سيفعل ترامب الآن عندما يجد أن الغزيين واليمنيين لا يخافونه؟ فلا غزة ستضيّع أهم أوراقها من دون مقابل، ولا اليمن سيتراجع عن دعم غزة، وخصوصاً بعد الضربات الأميركية. وهذا يعني أن ترامب إما أن يصعّد أكثر، وإما أن يتراجع.
يشكل تصعيد العدوان الأميركي على اليمن لغزاً حتى بالنسبة إلى المراقبين الأميركيين، إذ يستخدم الرئيس ترامب الأدوات العسكرية المكلفة ذاتها في مواجهة حركة أنصار الله التي سبق أن أثبتت عدم جدواها بين يدي إدارة بايدن.
هناك شبه إجماع بين الخبراء العسكريين الغربيين على أن إلقاء المزيد من الصواريخ والقنابل على اليمن لن يحل مشكلة “حرية الملاحة الدولية” التي يعود العدوان على اليمن بذريعتها، وأن المطلوب من أجل استئصال “التهديد الحوثي”، بحسب مصطلح قوى العدوان، هو تجريد حملة عسكرية برية يتمنى اليمنيون أن يجرؤ الغربيون عليها.
المؤكد أن أدوات الغرب في منطقتنا لن تغامر بحملة برية وحدها، لا سيما أنها جربت حظها ومنيت بالفشل في حربٍ عززت فيها حركة أنصار الله مواقعها في اليمن، وأسفرت عن تطويرها قدراتٍ عسكريةً مكّنتها من مدَّ مجال اليمن الحيوي عبر البحرين الأحمر والعربي وأبعد، وهو الأمر الذي قلب موازين القوى إقليمياً، في وجه العدو الصهيوني، وفي مواجهة أدوات الغرب في المنطقة.
لعلّ من مآثر “طوفان الأقصى”، وانخراط اليمنيين المظفر فيه، أنه كشف عسكرياً عيوب الأهداف الضخمة في البحر، مثل حاملات الطائرات، إزاء المسيرات والصواريخ الحديثة في القرن الـ 21 التي أضعفت، بالتالي، قدرة الولايات المتحدة على إسقاط نفوذها بحرياً، مع العلم أن 71% من سطح الكرة الأرضية يتألف من المياه.
الدرس قابل للتعميم بالضرورة خارج البحر الأحمر، وهي نقطة لعناية أتباع مدرسة الاستراتيجي الأميركي ألفريد ثاير ماهان في الجيوبوليتكس، والتي تبنّت نظرية الهيمنة على البحار والمحيطات، كرافعة للهيمنة عالمياً، عبر بناء قوة بحرية جبارة عمادها السفن الكبيرة، من أجل خوض المعارك الحاسمة وفرض الحصارات المطولة. وهي نظرية تفسر صعود القوى العالمية وأفولها، أي تفسر التاريخ، من زاوية قوة أساطيلها.
يبدو أننا بتنا في حاجة إلى نظرية جديدة اليوم تفسر قدرة “مندب” و”سجيل” و”فالق” في البحر، إضافة إلى “بركان” و”كرار” و”طوفان” و”قدس” و”فلسطين 2″ الفرط صوتي، وهي أسماء بعض صواريخ اليمن، وقدرة “قاصف” و”صماد” و”وعيد” و”شهاب” و”قاصف”، وهي أسماء مسيرات هجومية يمنية، على تحدي حاملات الطائرات الأميركية الضخمة وإجبارها على الانكفاء، أي إجبارها على تقليص ميدان عملياتها، ومن ثم قدرتها على فرض نفوذها.
الطريف أن خطاب “حماية خطوط الملاحة الدولية” الذي تتبنّاه إدارة ترامب في مواجهة اليمن، وخطاب “الدفاع عن وطننا” الذي عبّر عنه ناطق بلسان البنتاغون في السياق ذاته، يناقض موقف ترامب المعلن والمعروف من التورط في معارك دفاع عن ممرات مائية دولية تستفيد منها دول غير الولايات المتحدة أساساً.
نذكّر هنا بتغريدتين لترامب إبان رئاسته الأولى في صفحته على منصة “تويتر” آنذاك، في 24/6/2019، خلال توترات مع إيران في مضيق هرمز: “تحصل الصين على 91% من نفطها من مضيق هرمز، واليابان على 62%، والعديد من البلدان الأخرى كذلك. لماذا نحمي إذاً الممرات البحرية لدول أخرى (لسنواتٍ عديدةٍ) من دون أي تعويض؟”، مضيفاً: “يجب على جميع هذه الدول حماية سفنها في رحلة لطالما كانت محفوفةً بالمخاطر”.
ليختتم ترامب: “لسنا بحاجة إلى وجودنا هناك بما أن الولايات المتحدة أصبحت (بلا منازع) أكبر منتج للطاقة في العالم”. وجاء ذلك بعد اتهام الولايات المتحدة لإيران باستهداف ناقلتَي نفط في خليج عُمان، بالقرب من مضيق هرمز، إحداهما يابانية والأخرى نرويجية، وبعد إسقاط إيران طائرة مسيرة أميركية.
كذلك يقلق مخططو السياسات في البنتاغون اليوم من استنزاف القدرات العسكرية الأميركية في البحر الأحمر، في وقتٍ يكثر الحديث عن تزايد احتمال نشوب نزاع مباشر مع الصين في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، ومنه تصريح ترامب الأخير أنه لا يسعى إلى حربٍ مع الصين، “لكننا مؤهلون لخوضها إذا اضطررنا إلى ذلك”.
يذهب تقرير في مجلة “فورين بوليسي” الأميركي، في 18/3/2025، إلى أن أهداف إدارة ترامب من الحملة على اليمن ليست واضحة، لكنه يربط الحملة المتجددة على اليمن بعوامل إقليمية أكثر مما يربطها بالتجارة الدولية. ومن أهم تلك العوامل، بحسب تقرير المجلة:
أ – إرسال رسالة قوية إلى إيران، المصدر الرئيس لدعم الحوثيين وتسليحهم، بحسب إدارة ترامب، ضمن حملة “الضغوط القصوى” لإجبار طهران على التفاوض على مستقبل برنامجَيها النووي والصاروخي.
ب – الانخراط في سياسة التصعيد في المنطقة بعدما منح البيتُ الأبيضُ “إسرائيلَ” ضوءاً أخضر لاستئناف القصف واسع النطاق لغزة.
جـ – استهداف إحدى الجماعات القليلة المتبقية، من بين “وكلاء إيران”، التي ما تزال تحتفظ بالتماسك والقدرة على ضرب “إسرائيل” والأهداف الغربية، بعد تدمير حماس وحزب الله.
يشكك تقرير المجلة، على الرغم من ذلك، في فعالية الحملة الأميركية على اليمن في تقويض “التهديد الحوثي”، وفي تفكيك القدرات اليمنية، من دون غزو بري لليمن. وبناءً على ذلك، يصحّ أن نسأل: كيف سيردع قصف اليمنِ إيرانَ إذا كان عاجزاً عن ردع اليمن ذاته؟
ننتهي إلى نتيجة واحدة إذاً، وهي أن الحملة الأميركية المتجدّدة على اليمن جاءت تعبيراً عن أزمة الكيان الصهيوني في مواجهة الحصار اليمني على البحر الأحمر، فهي تلبية واشنطن لنداء استغاثة من “تل أبيب” بعدما أطلقت صنعاء النفير من أجل رفع الحصار عن غزة.
أضف إلى ذلك أن صنعاء، بدخولها على خط دعم غزة مجدداً، أضعفت أثر سياسة تصعيد الضغوط الصهيو-أميركية على المقاومة في غزة، وخصوصاً بعد تهديد ترامب بـ “إطلاق العنان للجحيم”، إذا لم يُطلق سراح السجناء الصهاينة في غزة من دون قيد أو شرط فعلياً.
د.إبراهيم علوش