متابعة للمقالة الأولى بعنوان كيف ننتفض، حيث حللنا الوضع الراهن وبيننا علاقته بهرم ماسلو للحاجات الإنسانية والذي يفك شيفرة الإنسان ويرسم خارطة الطريق من الحاجات الإنسانية الأساسية وصولاً إلى تحقيق الذات، ووصلنا بذلك التحليل إلى أن الحل يكمن في التعبئة الذاتية لعدم توافر عنصر القائد والبيئة والمجموعة التي ما تشكل عادة بيئة حاضنة للتعبئة النفسية في أي مجال من مجالات الحياة سواء المهنية أو الوطنية والقومية أو حتى الاجتماعية.
تبرز الحاجة الملحة إلى هذا الحل من خلال السؤال، ماذا نفعل ونحن نرى الأطفال والنساء الذين لم يعد يغطي رأسهم سقف، تنزل عليها أطنان من الصواريخ تصيب لحمهم مباشرة وتفتك بهم بشكل مباشر وتحرقهم؟! فماذا نفعل؟! ماذا نفعل ونحن بعيدون عن المشهد تماما؟! ولكن، هل تساءل أحدنا، ماذا كنا سنفعل لو كنا قريبين من المشهد؟! نعم الحدود مشكلة حقيقية، ولكن، هل لو كانت الحدود مفتوحة هل كنا فعلاً سنركض نحو الحدود؟! ثم ماذا؟َ! وماذا يعني أن تكون الحدود مفتوحة أصلاً؟! لماذا يُعد حارس الحدود خارج المواجهة؟! فلماذا لا نذهب ونواجه بطبيعة الحال؟!
بهذه التساؤلات أعيدُك إلى الواقع وأعيد تصويب البوصلة لديك، لأبين لك أن المطلوب أصلاً ليس ما تتخيله ولا ما تظنه. فليس في طاقتك ولا في وسعك أن تحمل السلاح وأن تخترق الحدود بطبيعة الحال، ولكن حالة الموت والقتل والاقتلاع من الجذور والمجازر والمحارق في غزة وحتى الساحل السوري تحتم علينا أن نفكر بالواجب… فماذا نفعل؟! إنه كما رأينا في المقالة السابقة فإن الطريق مسدود أمام ديناميكية الحاجات المجردة من خلال الأمراض النفسية والجسدية وانعدام الأمن في التعبير والتواصل ومن خلال كل ما يواجهه الناشطون الداعمون للقضية من ضغوط واتهامات وإلى آخره من تحركات سياسية ك التطبيع ودعوات للتهجير تشعر الفرد بأن المحيط مضاد له تماما.
ماذا نفعل؟! الجواب بكل بساطة هو الوصول إلى قمة هرم ماسلو (تحقيق الذات)، فدون تحقيق الذات لن ننتفض وسنظل نفكر بكل الإلهاءات الجسدية والنفسية والاجتماعية والأمنية، وإنني قد اقترحت مقترحا أن السبيل لتحقيق الذات يكمن بالتعبئة الذاتية كما أسلفت في بداية هذه المقالة.
ما هي التعبئة الذاتية؟! وكيف نقوم بها؟!
أقول بما أن الحاجات الميكانيكية التي يحاربنا من خلالها العدو والتي يشكل هرم ماسلو أساسها هي حاجات فردية فتكمن مهمتنا الأولى بمواجهة هذا النمط الفردي، حيث فرق تسد، ليعني لدينا أن تحقيق الذات هو مشروع جماعي يتجاوز الذات الفردية ليصبح دافع التحرك متجاوزا للحاجة الشخصية، وهنا تعالج لدينا مشكلة الأمان والذي يعني توفر الظروف المثالية والتي لن تتوفر أبدا في ظل الهجمة الصهيونية على الأفراد في كافة مناحي حياتهم ليصبح الأمان هو المواجهة وليصبح الأمان هو القدرة على التفاعل مع التهديد.
وأيضا إن امتلاك رؤية جمعية يعني إضافة معنى أكبر لوجود الفرد يتجاوز مصلحته الآنية وهنا يضاف مفهوم التضحية والابتعاد عن كل الملهيات والمغريات الآنية التي تحيط بالفرد وتخدر سلوكه.
إن كنت فنانا وإن كنت إعلاميا وإن كنت أديبا أو كاتبا لرواية أو اقتصاديا أو سياسيا أو ناشطا حراكيا أو هاويا في أي المجالات فالتعبئة الذاتية لديك تعني أن تحيط نفسك بالقضية الجمعية المصيرية التي تعنيك وتركها يهددك والتي إن لم تواجهها فذلك يعني أنك ستمضي حياتك لاهثا ورأى رغباتك الفردية، وليس هناك أكثر تهديدا لوجودنا من الصهيونية. فعلى مساهمتك كائنا من كنت أن تصب نحو الهدف الجماعي، بشرط أن يصل بك الحافز والدافع والشعور بتحقيق الذات إلى المواجهة والانخراط والاشتباك في أي مجال تختص فيه لأن قضية الأمن في السياق الذي نتحدث عنه تعني القدرة على التفاعل مع التهديد. وأنا هنا أشير إلى أكثر من مشكلة إغلاق حساب أو انخفاض في عدد المشاهدات على السوشيال ميديا.
التعبئة الذاتية أن تصل إلى تحقيق الذات في مجالك بانغماسك فيه بشكل كلي نحو الاتجاه المعادي للصهيونية، وأدعوك هنا إلى التأمل كثيرا في هذا المفهوم لأنه هو السبيل الوحيد لدينا والتراخي يعني أن الموت يحدث و وموقفنا هو موقف المتفرج. فإن كنت فنانا فليس خيارك عسكريا بل يجعل فنك منصبا ومنغمسا جدا في مواجهة وفتح الصهيونية وإن كنت إعلاميا فانغمس في هذا أيضا وإن كنت أديبا وإن كنت اقتصاديا فقاطع الصهيونية وبين للناس الوسائل والاستراتيجيات الضخمة التي يمكن أن تحط بالاقتصاد الصهيوني سواء في سوق الأسهم أو في أي مجال اقتصاديا آخر بل وحتى إن كنت بائع قهوة اكتب اسم فلسطين وغزة على كاسة القهوة وامتنع عن بيع القهوة إن كان مصدرها شركة صهيونية، فالفكرة أن نفني أنفسنا في ما نحن بارعون فيه من أجل محاربة الصهيونية.
وحتى تصبح مهمة الانخراط ممكنة والأفكار متوالدة في مواجهة الصهيونية فيجب على الفرد أن يعرض نفسه للمعرفة التي تحركه، كمعرفة التاريخ الاستعماري في بلاد الشام ومعرفة تفاصيل الأحداث، فهل يعرف فنان كم من الفنانين الفلسطينيين اغتيلوا وقتلوا؟ هل يعرف طالب في الهندسة عن المهندسين الفلسطينيين والعرب الذين سخروا معرفتهم وعلمهم في مواجهة الصهيونية؟ وهل يعرف صانعوا القهوة عن اليمن أصل القهوة والعروبة وجدار المقاومة؟ فهنا يصبح عنصر البحث والمعرفة فاعلاً ليصبح تحقيق الذات شغفاً وطريقاً تنقذ الآخرين بدلاً من الانغماس الأناني الآني الذي ينتهي بالإنسان ليكون إنساناً بلا غاية!
الخلاصة
خياراتنا العسكرية كأفراد هي خيارات وهمية، وعدم استغلال إمكاناتنا وقدراتنا وخبراتنا في ظل المجازر يعني أننا وقفنا موقف المتفرج، السبيل الوحيد لدينا هو الخروج من كل ما يسيطر علينا ويمنعنا عن تحقيق ذواتنا، وطريق الخروج تكمن بالتعبئة الذاتية في كل مجال نختص فيه وأقصد بذلك الإنخراط والانغماس الكلي في مجالاتنا إلى الدرجة التي تحقق المواجهة والاشتباك مع الصهيونية حيث الأمان هنا هو التكيف مع التهديد لأن التهديد هو كل شيء يمنعك عن أن تحقق ذاتك. وإن تحقيقك ذاتك بعيدا عن مواجهة الصهيونية التي تقوم بالمجازر هو أيضا موقف المتفرج.
آدم سرطاوي