غزة … وطريق الحج!

لم يكن يوم التاسع من آب عام ٢٠٢٢ يوماً عادياً .. كان ميعاداً مع واحدةٍ من قاسيات الحرب .. نعم الحرب .. فمن قال إن الحرب قد توقفت يوما بيننا وبين هذا العدو اللعين ؟!!!

أيقظني أبنائي في هذا اليوم وهم متخوفون من أنّاتي المتوالية وشهقات دموعي الحرّى وصوتي الذي يستصرخُ مستنجداً فتخنقُه تلك الغُصصُ الثقيلةُ التي تطبِقُ بإحكامٍ على أنفاسنا في الرؤى الثقيلة .. تلك الرؤى التي نقوم منها متعبين متوجّعين متألمين ونستغرقُ وقتاً حتى نتقبّل فكرة أنها كانت.. مجرّدَ حلم!!!!

مجرّدُ حلم؟!!

أوليستِ الأحلامُ هي حقيقةُ الحقيقة؟. أوَلم يقلْ بعض الفلاسفةِ الروحيين إن مانعتقده أحلاماً هو الحقيقةُ الدامغة ومانعيشُه واقعاً هو الحلم؟!!

هذه فلسفةٌ لطالما آمنت بها.. وإلا فكيف استُشهد إبراهيمُ يومَها؟!!

صرختُ في منزلي وقلت لزوجي:

  • لقد ناديتهم جميعا .. ناديتهم كي ينقذوه.. لكنّ أحداً لم يردّ علي .. وهو .. هو كان يقول لي وهو باسم كصفحةٍ من بُشرياتِ الكتابِ المقدس.. لاتصرخي.. فأنا راحل!!!

ولكن روحي تصرخ دائما .. لماذا عليّ أن أعود دونَ واحدٍ من الأحبة؟!.. ودائما يتصدى الشيخ الجليل بكهفَي عينيه لتمرُّدي على فِراقِ الأحبّة، فيقول بثبات:
_ مازال لديكِ عمل !!!!

سألني وضاح:
_ من هو الذي صرختِ لينقذوه؟. لقد اتصلنا بالضيعة ولاشهيد جديد .. من هو؟

وتصعقني قوانينُ الواقع!!
_ لا أذكر!!!

لكن الوقت لم يطُل حتى ملأتِ الشاشاتِ أخبار استشهاد بطل عشرينيٍّ فلسطيني .. إنه ابنُ نابلس !!!!

آآآه يا إبراهيم!!!

بكيتُ إبراهيم حتى جفّ قلبي.. ولم يعد طفلاي يستوعبان مايجري ولكنّ الحسن والحسين كانا يحتضان كتفيَّ كلٌّ من جانب وهما يسألانني:
_ ماما .. يعني بتعرفيه لابراهيم؟!!
وأقول بتلقائية الواقع الذي تتمزّقُه شهقاتي:
_ لا…!!
يعجبُ ولداي ولكنهما يتابعان معي مشاهد إبراهيم النابلسي العشريني وهو يتقدّم صفوف رفاقه ليُذلّ العدو، يمسكه رفيقٌ له ليتراجع، فيخلّص نفسه من أكبالِ رفيقه ويتقدم فارساً لا ككل الفرسان يطلق الرصاص على الهدف!!!

كل المشاهد كانت مرفقة بأغنيةِ “شفتو البطل شفتو حافظ بلادو عن غيب”

وأبكي كما بكيت بطلَ سجن حلب المركزي الشهيد القديس جعفر زويد وكذا كانت ترافقه أغنية “من الموت لا ما نهاب .. نلبس كفنّا تياب .. لعدوّنا حنا قبر .. والموت سجانين”

بقيت أبكي إبراهيم وألتقطه في كل بثّ مباشر على هواء السورية وأرمي به عدوّ الله وعدوّنا .. أذكّر الصهيونيّ أن إبراهيمَ أذلّه وانتصر عليه حتى وهو شهيد وأن إبراهيم ورفاقه رسموا بدمائهم خارطة الزوال لهذا الكيان اللعين!

فجأة .. التقطت الأرض كل جثامين الشهداء الطهور ودماءَهم الزكية … وكان الطوفان!!!

ذكرتُ إبراهيم مراراً وأنا أحاور الضيوف وأتوجه للمشاهدين على الشاشة لأنّ كلّ ما نعيشُه .. هو وثيقةٌ للتاريخ .. صحائفُ سوف نقدّمها بين يدي اللهِ والوطن!!

في سابع شهور الطوفان روى لنا السيد هاني سليمان قصةَ إبحارِه مع المنقذين إلى غزة وعن السفينةِ التي تتحضّرُ لرحلةٍ قادمة .. عبر منتدى شباب سيف القدس الذي أسسه الأستاذ ناصر قنديل .. كان السيد هاني يتحدث لكن صوته ضاع مع أمواج البحر التي نقلتني على السفينة إلى شاطئ غزة ولاحت لي وجوه الأطفال الذين رجوتُ الله أن يكتبَ لي احتضانَهم لوّحتُ لهم وطافت دموعُنا تسابقُ ملوحةَ البحرِ في قهرها وحنينِها .. لم أكن أظن أن أحداً يراني وأطلقتُ لروحي مداها الحزين الذي تواثبَ فوق كل الصعاب وهو ينادي :
_ياااااا أهل غزة .. يااااااا أهل غزة .. ياااااا حبّة عيون الأنبياء .. جئتكم من سورية التي تحبّكم يااااا أهل غزة!!!

مرّ شيءٌ ثقيلٌ من هولاتِ الدموع .. لكن الأستاذ ناصر يمنعني ويقول لي أنتِ تقدمينَ لهم في عملِك أكثر مما ستقدمين لوذهبتِ إليهم .. لاتكوني أنانية!!

أعرف يقيناً أن أكبر جهادٍ تعيشُه الروح هو ذلك الذي تغالبُ فيه بين ماتشتهيهِ ذاتُها وماتقتضيهِ خدمةُ القضية.. أعرف جيداً أن الأستاذ الذي أُجِلّه والذي بلّلت دموعُه ذقنه يقولُ الحق.. وأعرفُ أن ماتستدعيه القضية يجبُ أن يكون قانوني في العمل وليس ماتشتهيه الروح!!

ولكن الروح … ظلت تنادي … خذوني إلى غزة … خذوني إلى القدس … خذوني إلى فلسطين!!!

عندما جاءني ذلك الهاتف لم أكن قد تخيّلتُ للحظة أن العنوانَ الذي كتبته للجزء السابعِ من الطوفان سيكون وعداً من الله لروحي “غزة .. وطريق الحج”!!!!

لم أكن أعلم أنني سأكلّمُ أمّ إبراهيم ذاتَ الوجه الشريف والروح الطاهرة الثابتة التي صارت أيقونةً في أوطاننا تزرعُ في الأرضِ ابنَها عقيدةً .. وتُسلِمُه للسماءِ وديعةً عند من يحبّه ويهبه رزقَه ويرسله جندياً مسوماً مع المسوّمين!!!

لم أستطع إدراكَ حقيقةِ المواثيق التي تحصل بيننا وبين السماء وتشهد عليها أرض ميعاد الأنبياء حتى سويعات قبيل كتابتي هذه الصحيفة من صحائف الطوفان، عندما كنت أقلب صورَ الخالة الحبيبة أم إبراهيم وأضع صورتي قبالةَ صورتِها لأننا التقينا .. وكنت غارقةً بين الصور التي يراقبُها إبراهيم الشهيد باسماً وتضيعُ ملامحُها الواضحة بين سيلِ دموعي فأرسلت لي أمّ إبراهيم صوتَها تدعو لشهداء سورية وشهداء فلسطين وتنثرُ على روحي عباراتِ الثناء التي أراني فقيرةً خاشعةً في حرمِها، وتربّتُ على إجهاشي بالبكاء، بصوتها الثابت المؤمن
وتعدني أننا سنلتقي في حرم الأقصى الشريف وتدعو لي مايجول في روحي من استجداءاتِ السماء!!

أيقنتُ حقاً .. أنه الحجّ .. غزة وطريقُ الحج ..
لم يحرمني الله قبولَ “وجّهتُ وجهي”!!

وفيما كان الله يرسمُ براحتيه الكريمتين جلالَ موعدي مع أم إبراهيم الشهيد الحبيب .. وفيما كنا نتبادل العهود والمواثيقَ والدعوات .. كان رجالٌ لله في بلادنا التي نتوضأ في دمشقِها لنصلّي في قدسِها .. يقبضون على جثامين الشهداء بين جوانحهم عقيدةً لا تخطئ هدفَها .. ويضربون بها عد.وّ الله وعدوّنا .. يذلّونه قبل زواله .. ويخطّون لأرواح المؤمنين طريقاً إلى الحجّ العظيم مدركين معاني التلبية “لبيك اللهم لبيك”!

هناك حيث سيدرك المؤمنون في صلاةِ التحرير معاني تكبيرات العيد “الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله …. صدق وعدَه ونصرَ عبدَه وأعزّ جُندَه وهزم الأحزابَ وحده لا إله إلا الله”!!!

وهناك .. سنصلي على نبينا الحبيب ونسلم عليه
“تسليماً كثيرا”!!!

فاطمة جيرودية – سوريا