يمكن لأي متابع الانتباه دون عناء إلى أن الظروف التي يعيش فيها اليمن هي الأشد صعوبة وقسوة مقارنة بكل شعوب المنطقة، بما فيها ظروف بلدان محور المقاومة الأخرى باستثناء فلسطين، وخصوصاً غزة. ويمكن النظر بالمقابل الى أهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن المطلّ على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث ممرّات التجارة العالمية وخطوط إمداد الطاقة، خصوصاً إلى أوروبا بعد انقطاع خطّ تزويدها بالموارد الروسية، وموقع هذا الممر المائي الهام بالنظرة الأميركية لمفهوم الأمن العالمي وموقع أميركا لضمان الإمساك به واعتباره مفتاحاً من مفاتيح الأمن القومي الأميركي. ويمكن إلى جانب ذلك النظر إلى أن اليمن جغرافياً يجاور منطقة ثقل استراتيجي على الصعيد العالمي هي منطقة موارد النفط والغاز والقواعد الأميركية، وعلى خلفية كل ذلك الانتباه إلى أن عدد سكان اليمن يمنحه مكانة أولى بين دول منطقته على هذا الصعيد، ومكانة عربية بين الدول المتوسطة الحجم مثل الجزائر والمغرب وسورية والعراق والسودان التي تأتي بعد مصر من حيث عدد السكان.
بهذه العناصر الشديدة الأهميّة يصبح اليمن الذي يملك احتياطات ضخمة في النفط والغاز، أهمّ دولة بين دول محور المقاومة، من الزاوية الاستراتيجية، إذا نجح بحماية موقعه ودوره والمثابرة على سقفه الواضح في خيار المقاومة، بما يتيح تحويل عناصر الأهمية الاستراتيجية إلى مصادر قوة رغم كونها أسباباً كفيلة باستقطاب مشاريع الاستهداف والحصار والعزل، لكن ما قدّمته تجربة حرب طوفان الأقصى قد أضافت إلى العناصر الموضوعيّة للأهمية اليمنية عناصر تميّز في بناء القوة واستخدامها، بالمقارنة مع كل قوى المقاومة، فقد نجح اليمن على ثلاثة مستويات نوعيّة واستراتيجية، فما هي؟


الأول أن اليمن دخل في منازلة مباشرة مع قوات حلف الناتو البحريّة بقيادة أميركية جسّدتها حاملات الطائرات والمدمرات والسفن الحربية، ونجح بإقامة توازن عسكري في مواجهتها، وبقي قادراً لأكثر من عام على تنفيذ قرار الحظر البحريّ على السفن المتجهة الى كيان الاحتلال والسفن التابعة للكيان وتلك التابعة للشركات البحرية التي تتعامل مع الكيان، ولم تنجح كل محاولات البحرية الأميركية بضمان حرية الملاحة نحو الكيان لهذه السفن، ونجح اليمن بإلحاق إصابات بالغة بالحاملات والسفن الحربية الأميركية. وبفضل هذا النجاح فرض اليمن لأول مرة في تاريخ الكيان حصاراً بحرياً طويلاً على تجارته انعكس بقوة على وضعه الاقتصادي وصولاً إلى إعلان إفلاس مرفأ إيلات وإقفاله، أهم موانئ الكيان التجارية، هذا عدا نجاح الكثير من الاستهدافات اليمنية لعمق الكيان وعاصمته.
الإنجاز الثاني تمثل بهذا التدفق الشعبيّ المذهل لليمنيين إلى الساحات والميادين على مدى الأيام والأسابيع والشهور بصورة لا مثيل لها في البلاد العربية، سواء للتعبير عن حجم زخم الثقة التي يمنحها الشعب لقيادته، أو للتعبير عن مكانة القضايا التي يُدعى للقتال من أجلها وعلى رأسها قضية فلسطين. والأمر ليس تعبوياً فقط ولا مشهدياً وحسب، إنه تعبير عن النجاح بكفاءة عالية في فهم حقيقة أن البعد الشعبيّ في أي حرب ودرجة التفويض الشعبي الممنوح لخوضها، يشكل عنصراً حاسماً من قدرة القوة المسلحة المنتمية لهذا الشعب، على خوضها وتحمل تبعاتها، وأن يحصل هذا في ظل الحصار القاتل المفروض على اليمن وعلى خلفية حرب شديدة القسوة لسنوات طويلة استهدفته وأصابت عمرانه وبيئاته الشعبيّة بالأذى، يجعل هذا الإنجاز استثنائياً، حيث تعاني كل ساحات المقاومة باستثناء غزة، من معضلة كيفية التوفيق بين خيارات المقاومة ودرجة تقبّلها في بيئات شعبية متفاوتة التفاعل مع خطاب المقاومة كحال لبنان والعراق، وفي ضوء ما شهدته سورية مؤخراً.
الإنجاز اليمني الثالث، هو النجاح ببناء قوة عسكرية محترفة متقدّمة في المجال التكنولوجي، كما تقول تجربة الطائرات المسيّرة ومداها وقدرة وصولها لأهدافها، وتجربة الصواريخ اليمنية مع حاملات الطائرات الأميركية والسفن الحربية الأميركية المزوّدة بأحدث تقنيات الإنذار المسبق وصواريخ الحماية، ونماذج الصواريخ الفرط صوتية التي ظهرت في الحرب، إضافة الى تقنيات تتبع السفن ومهارة ملاحقتها من المحيط الهندي إلى بحر العرب والبحر الأحمر. وهذا التطور التقني لا يتم في شهور وأسابيع، بل هو حصيلة جهد ومواظبة على مدى سنوات، وتجنيد مئات من الكوادر العلمية القديرة وإنشاء منشآت متخصصة بالتصنيع يبدو أنها في أماكن حصينة لم تنجح كل الاستهدافات بمنعها من مواصلة تزويد القوات اليمنية بما يلزم لمواصلة المواجهة.
هذه الإنجازات الكبرى، تضيف إلى شخصية قائد حركة أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي، الواقف وراء هذه الإنجازات مهارات قيادية، فوق مهاراته الاستثنائية الإعلامية، حيث يحاكي النجاح الذي حققه الشهيد السيد حسن نصرالله، وهو يواظب على إطلالات يحتاجها الشعب لبناء الوعي السياسي، وتمثل الحشود الشعبية أداة قياس للتفاعل معها، وهو ما افتقدته سورية بسبب طريقة فهم قيادتها للعمل السياسي والشعبي، وتفتقده حالياً غزة باستثناء إطلالات أبو عبيدة، بعد استشهاد القائد إسماعيل هنية، ويفتقده العراق، بينما تبدو إيران شديدة الانتباه لأهمية حرب الوعي والتبيين عبر الإطلالات المنتظمة والمفصلة من قبل المرشد السيد علي خامنئي.
يصحّ القول إن اليمن بلغ في الإنجاز حد الإعجاز، إن لم يكن المعجزة!.

ناصر قنديل