الساعة الثانية والنصف فجرًا، انتفضتُ من نومي على صوت صراخ شق المدى، قمتُ فزعةً. وقبل أن أفتح النافذة لأرى الصوت، صاحت بي خالتي: توقفي! لعلها طائرة ( الكواد كابتر ) أحيانا تصدر أصوات استغاثة لقتل المغيثين. للحظةٍ توقفت، لكن قلبي كاد يتوقف من الحيرة والخوف حينما ازدادت الجلبة والفوضى في الحارة ، فلعل هذا صوت جيراننا وهم ينزحون هربا من الموت، ففي أيام كثر تصدر قرارات الاخلاء بعد منتصف الليل، فتحت النافذة الشمالية، حيث شمال النصيرات خط الموت الساخن لا يهدأ! لكن الذي راعني أن الصوت ليس من هنا!
اذا لم يكن الموت من شمال النصيرات ومن شرقها فمن أين يكون إذن؟
بسرعة خرجت من غرفتي، لعل الصوت عويل جارةٍ جاءها خبر استشهاد أقاربها،، حملتُ هاتفي، حاولت الاتصال بالانترنت لكنه الاتصالات تبيت بعد صلاة العشاء في المخيم.
ازدادت الجلبة، وارتفع الصراخ، ودون أن أعي لصوت خالتي التي كانت تصرخ بي: ما تفتحي الشباك يا بنت! فتحت النافذة؛ ونظرت لأسفل، كان أخي وزوجته يقفان أمام بيتهما، فسألته وصوتي يرتجف: ماذا هناك؟
فأجابتني زوجته: جارتنا تضع مولودها!
للحظة تنهدتُ، وقلت لها: الحمد لله، إنها الحياة التي خشيت أن تكون موتًا، لكن هدوئي النسبي لم يطل، لقد ضج بي قلق الحياة والموت، فالحياة ليست أفضل من الموت بكثير سوى أنها أقل عدمية مما نتخيل. وأكثر أزلية مما ينبغي.
جلست تحت النافذة أبكي.. والممرضة التي نزحت لبيت جيراننا تقول للسيدة التي تضع مولودها: كوني قوية كي لا نفقد الطفل!
الموت والحياة يا سيدتي كلاهما قوي! وكلاهما منهزم، وهما يسيران جنبا إلى جنب، الموت والحياة يتقاسمان الأمس واليوم والوجه الحسن والغد المأمول والحلم المنتظر.
انهما يسيران على اطرافنا كما تمشي القطا بين بين.
لقد أصبحت الساعة الخامسة فجرا، والسيدة لم تضع مولودها، والحارة كلها في مخاض عسير
لم أتمالك نفسي وأنا أقول لأخي: أعطني مفتاح سيارتك، لا أخاف من القيادة ليلا، دعنا نفعل شيئا..
صمت قليلا وقال لي: كنتُ سأفعل! لكن ألا تسمعين تقدم الآليات وإطلاق الرصاص المنهمر كالمطر؟! للتو كنت مع جارنا.. حاولنا الاتصال بالإسعاف لكن الإسعاف لم يجرؤ على الوصول للمنطقة..
انتبهتُ أن صوت الحياة كان يزاحم أصوات الموت الوقت طيلة فلم أنتبهْ له، ارتعشت قلقا حينما تغلغل بي صوت تقدم الآليات وصدى إطلاق النار يثقب سكون الليل.. لقد شغلتني الحياة عن الموت! كما يفعل الموت كل حياة حينما يشغلني عن حلم النهار.
يرتفع صوت الممرضة وهي تقول: يا بنتي لا نريد أن نخسر الطفل!
جلست بجانب النافذة، أبكي كما لم أبك من قبل،، وخالتي تقول لي: هي أكثر حظًا من النساء الحوامل التي استشهدن في سيارات الإسعاف المستهدفة، أو تلك السيدات الحوامل اللواتي باغتهن المخاض وهن في طريق النزوح الطويل، أو تلك اللواتي حوصرن في المشافي، بينما الدبابات تحاصر الموت والحياة حد السواء.. هي اكثر حظا ممن استشهدن واستشهد اطفالهن!
لا تحدثيني عن الحظ مطلقا، انا لا أحب أن اقارن مساحات الألم ببعضها، قارني بين الأمل والمسافة إليه، قارني بين المسافة لا بين المساحة! ولا تحدثيني عن الحظ مطلقا فكلنا بائسون، أحياء وميتون في اللحظة ذاتها.
كل أوجاع الفلاسفة الوجوديين هنا! هنا يتعانق الموت والحياة حتى يصيرا واحدا، ضدا يشبه نفسه بعده ومن قبل ابتدائه.
أجل! هذا صوت الآليات التي تتقدم كل يومٍ من خط الموت شمال النصيرات، وهذا صوت الله أسمعه في صوت المطر.. وهذه صوت الجلبة من بيت جارنا.. يزداد صوت إطلاق النار.. يقترب صوت تقدم الآليات.. يرتفع صوت الله في المطر المنهمر ..
ثم تتوقف الأصوات كلها فجأةً في دقيقة خلتها دهرًا، للحظةٍ شعرتُ أن قلبي الذي تزدحم به الحياة والموت سيتوقف وهو يسأل ارتباكته: ماذا حدث؟!
لكنّ قشعريرة الحياة دبّت بي، حينما ارتفع بكاء المولود! والممرضة تقول: صبي متل القمر..
إنها معجزة الحياة التي تتشكل في ساعة السحر التي يتشكل فيها البدء والمنتهى، إنها الحياة التي تحب نفسها حتى وهي تخرج من عباءة الموت ثم تسير جنبا إلى جنب معه! ندا لند وضدا لضد،، ترتفع الزغاريد في البيوتات الصغيرة المتآكلة بعد نجاة الجنين، كأن خط الموت الساخن شمال المخيم لا يصدّر موتا ولا بارودا.. إنها الحياة أيها الموت إنها الحياة!
اللوحة للفنان القدير: Imad Abu Shtayyah
بقلم الكاتبة مريم قوش-النصيرات/غزة-فلسطين