توقيت اللقاء الذي جرى بين السيد الرئيس د.بشار الاسد و الرئيس بوتين الأسبوع الماضي (٢٣/٧/٢٠٢٤) لم يكن مصادفة ، و ذلك نتيجة تطورات الصراع مع الناتو و حلفائه التي شهدناها إن كان ذلك على جبهة روسيا ضد أكرونيا من جهة أو على جبهات محور المقاومة -الذي تعتبر سوريا عمقه الاستراتيجي – ضد الكيان الكولونيالي الصهيوني من جهة أخرى، بالإضافة إلى التطورات التي تحدث في الشمال السوري و التي هي مرتبطة بالصراع القائم برمته .

و عليه اخترنا اليوم مقالاً تم نشره على موقع العهد الجديد بتاريخ ٣/٨/٢٠٢٤ للكاتب د. حسن أحمد حسن تحت عنوان (خطوط حمراء و خطوط نار ) :

○●○●○●○●○●○●○●
خطوط حمراء وخطوط نار

منذ الإعلان عن زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو بتاريخ 24/7/2024 وعقد قمة مع الرئيس فلاديمير بوتين والمعالم الأساسية للصورة الإقليمية تتوضح بشكل متدرج ومتدحرج يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من الجمل القليلة التي تم نشرها من حديث السيدين الرئيسين إلا أنها كافية لإدراك أن متغيرات دراماتيكية في طريقها للظهور والتبلور، فالمقطع الذي نشره الكرملين تضمن قول بوتين للأسد: “أنا مهتم للغاية برأيك بشأن كيفية تطوّر الوضع في المنطقة ككل… لسوء الحظ، هناك ميل نحو التصعيد، ويمكننا أن نرى ذلك… وهذا ينطبق بصورة مباشرة على سورية”.

وعلى الرغم من الجمل القليلة المتضمنة التي تم نشرها من حديث السيدين الرئيسين إلا أن توقيت الزيارة، وربط ما تم نشره وتداوله بالتطورات المتسارعة، يشير إلى أن لدى روسيا معطيات جديدة وخطيرة بآن معًا، وأن الوضع في المنطقة يتّجه نحو المزيد من التعقيد وتشابك المدخلات التي قد تتمخض عنها تحديات وأخطار يجب الاستعداد لمواجهتها ومناقشة احتمالات تداعياتها، وكيفية التعامل المشترك إزاءها بين الرئيسين، وليس لدى أي مستوى آخر. وعلى أرض الواقع شهدت المنطقة جملة من التطورات الخطيرة إلى درجة إمكانية الاشتعال في أية لحظة، ومن السذاجة بمكان التوهم أن ما حدث وصل إلى محطته الأخيرة، أو قبل الأخيرة طالما لم يتم الرد حتّى الآن من قبل إيران وحزب الله، وبقية أطراف المقاومة، فكسر الخطوط الحمراء يعني تلقائيًا الانتقال إلى خطوط أكثر خطورة، ومقابل كلّ خط أحمر يُكْسَر أكثر من خط نار كامن واشتعاله حتمي، لكن وفق توقيت المقاومة، وليس وفق توقيت من أعمى التيه والكبر بصائرهم وأبصارهم بآن معًا، فحق فيهم قوله تعالى في سورة المرسلات ــ الآية 46: (كلوا وتمتعوا قليلًا إنكم مجرمون).

ولتوضيح هذا الأمر أتوقف عند بعض النقاط المهمّة التي قد تساعد على تفكيك الصورة المعقّدة التي أفضت إليها العدوانية الأميركية ـــ “الإسرائيلية” المنفلتة ـــ حتّى الآن ـــ من كلّ عقال، ومنها:

  • كل ما تم الترويج له من احتفاء أميركي بخطاب نتنياهو في الكونغرس، والتصفيق الحاد والمتواصل طيلة فترة الخطاب، هو رسالة للداخل “الإسرائيلي” والأميركي بالدرجة الأولى قبل أن يكون رسالة إلى أي طرف آخر، فالداخل “الإسرائيلي” منقسم جراء عجز حكومة نتنياهو عن تحقيق أي من الأهداف التي تم الإعلان عنها منذ 7/10/2023. وتداعيات ذلك تشكّل خطرًا وجوديًا على الكيان، وهذا ما اعترف به المسؤولون “الإسرائيليون” بمن في ذلك نتنياهو نفسه. وهذا التبني الأميركي لرئيس وزراء الكيان المجرم رسالة طمأنة للتجمع الاستيطاني للتقليل من القلق والهياج والتوتّر، ولملمة الوضع الداخلي المتشظي، والاستعداد للأصعب والأشد خطورة، وما تغيير لهجة صقور المعارضة الداخلية “الإسرائيلية” إلا الشاهد الأبلغ على صحة هذا القول، ويؤكد ذلك التصريحات الأخيرة التي نشرتها صحيفة “معاريف” الإسرائيلية للواء الاحتياط اسحق بريك وقوله: “الكراهية التي تشتعل في “إسرائيل”، والتي تتعمق مع استمرار الحرب بين اليمين واليسار، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين العرب واليهود، كلّ ذلك يفكك الدولة من الداخل”.

الأمر ذاته يمكن سحبه على الداخل الأميركي الذي شهد تظاهرات عارمة في عدد من المدن والجامعات ضدّ الإجرام “الإسرائيلي” المستهتر بكلّ القيم والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية المرعية، فجاء الاستعراض الصهيوني في الكونغرس ليوصل رسالة للأميركيين بمضمون يقول: كلّ تحرك جديد لإدانة حكومة نتنياهو عبثي ولا طائل منه، فتصفيق الكونغرس تأكيد على تبني واشنطن لكل السياسات والإجراءات المعتمدة “إسرائيليًا”، أي إن واشنطن شريكة في ذلك بتفويض من الكونغرس بمجلسيه: الشيوخ والنواب.

  • حرص نتنياهو على اللقاء مع أهم مفاصل صنع السياسة الأميركية، فهو لم يكتف بتصفيق الكونغرس بل التقى ترامب أيضًا، وشكره على “اتفاقيات أبراهام”، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة “إسرائيل” على مرتفعات الجولان، واغتيال قاسم سليماني، وإنهاء الاتفاق النووي السيئ مع إيران.

  • والسؤال المشروع هنا: لماذا استذكر نتنياهو اغتيال الشهيد قاسم سليماني بعد أربع سنوات على العملية؟ وهل في هذا إشارة إلى اغتيالات قادمة يساعد بتنفيذها الديمقراطيون كما فعل الجمهوريون؟ والتساؤل الآخر الذي لا يقل أهمية ماذا يعني تعهد ترامب بمكافحة انتشار معاداة السامية ــ على حد توصيفه ــ في الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وتهديده بأنه إذا لم يفز بالانتخابات، فستكون هناك حروب واسعة النطاق في الشرق الأوسط وربما حتّى حرب عالمية ثالثة؟. ومن المعروف أن خلافات ترامب مع ما يسمّى الحكومة العميقة أدت إلى إقصاء ترامب ووصول بايدن إلى البيت الأبيض، فهل استقرأ أعضاء تلك الحكومة أخطار تهديد ترامب، واتّخذوا القرار بإشعال منطقة الشرق الأوسط من الآن بما ينسجم مع جنون نتنياهو الذي يبقى أقل خطرًا على أميركا من حماقة ترامب؟. تساؤل وإن بدا غريبًا بعض الشيء، لكن وضعه على طاولة التحليل والتشريح قد يكون مفيدًا.
  • استنادًا إلى ما ورد في الفقرة السابقة، وتذكيرًا بالتطورات الخطيرة التي أشار إليها الرئيس بوتين، واتّخاذها منحى تصاعديًا في الشرق الأوسط تتضح خطورة حادثة الصاروخ الذي أصاب ملعبًا رياضيًا في مجدل شمس، وأدى إلى ارتقاء عدد من الشهداء وإصابة آخرين بجراح في الوقت الذي كان نتنياهو ما يزال في واشنطن، وسرعان ما تتهم “تل أبيب” حزب الله الذي نفى بشكل قاطع أية علاقة له بذلك، لكن الإدارة الأميركية وعلى لسان وزير خارجيتها، وقبل القيام بأي إجراء، وبدون أي دليل تبنت الرواية “الإسرائيلية”، وأكدت حق “تل أبيب” في الرد على جريمة تؤكد كلّ القرائن الدالة على أن جيش الاحتلال “الإسرائيلي” المسؤول عنها، ومع ذلك يصمُّ البيت الأسود أذنيه، ويصرح بمناصرته للكيان المؤقت، والتمسك بالدفاع عنه بعد الإقدام على اغتيال الشهيد القائد فؤاد شكر (السيد محسن) في قلب الضاحية الجنوبية في بيروت، وبعدها بساعات اغتيال السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وبين الجريمتين تقوم القوات الأميركية بقصف قوات الحشد الشعبي في منطقة جرف الصخر جنوب غرب بغداد، إضافة إلى جريمة الكيان الصهيوني قبل أيام بقصف مطار الحديدة في اليمن، واجتماع كلّ ذلك يؤكد أن واشنطن لا تقل رغبة عن “تل أبيب” بإشعال المنطقة، بغضّ النظر عما يتم ترويجه إعلاميًا، وليس باستطاعة نتنياهو وحكومته الإقدام على مثل هذه الجرائم إلا برضا أميركي وموافقة صريحة ومشاركة في التنفيذ، ولذلك تحركت البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات والأساطيل إلى المياه الإقليمية، مع تأكيدات علنية من الإدارة الأميركية بحتمية تدخلها كشريك مع حكومة نتنياهو في أي رد على عدوانية “تل أبيب” التي تجاوزت أكثر الخطوط الحمراء خطورة، في حين كانت السمة العامة التي صبغت أداء جميع أطراف محور المقاومة التماسك الذاتي وضبط الأقوال والسلوكيات بما ينسجم والتوازن المعروف عن المقاومة، وقدرتها على التعامل مع التحديات بما ينسجم ويخدم استراتيجية المقاومة بعيدًا عن تأثيرات الغضب الآني، والعمل بحكمة ومسؤولية للرد الجدي والمسؤول وفق ظروف الميدان، وهذا ما شدد عليه سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه في تشييع الشهيد القائد فؤاد شكر (السيد محسن) بقوله: “الميدان هو الذي يعرف ظروفه وفرصه، ونحن نبحث عن ‏ردٍ حقيقي، وليس ‏عن ردٍ شكلي، كما يُحاول البعض أن يُفلسف الأمور، بل نحن نبحث ‏عن ردٍ حقيقي وعن فرصٍ حقيقية، ‏وعن ردٍ مدروس جدًا…”.
  • لكل من يسأل عن الرد ونوعيته وماهيته وتاريخه فالجواب واضح وصريح ومؤكد من قادة محور المقاومة: سماحة السيد القائد علي الخامنئي دام ظله الوارف، وسماحة السيد حسن نصر الله وعبد الملك بدر الدين الحوثي حفظهما ربّ العالمين، ومن يتوهم أن التهويل الصهيو ـــ أميركي، ودبلوماسية البوارج الحربية يخيفان المقاومة فعليه أن يعيد حساباته، ومن يحاول الاصطياد في الماء العكر، ويروج لقدرات خارقة لدى محور المقاومة تفوق القدرات الأميركية والأطلسية و”الإسرائيلية” مجتمعة، ويستسهل اتّخاذ قرار حرب شاملة فجهود أولئك لا تساوي شروى نقير، ومحور المقاومة لا يغريه ثناء ومديح، ولا يغير من خططه وقراراته ذم وقدح، وقبل هذا وذاك من يحب الظهور وتسويق الذات على أنه مقرب من مفاصل اتّخاذ القرار المقاوم ويتحدث بتواريخ وأهداف وخطط معتمدة، أو قد تُعتمد، فأولئك يسيئون لأنفسهم قبل إساءتهم إلى غيرهم، فمثل هذه العناوين الأساسية التي يتوقف عليها حاضر المنطقة ومستقبلها لا يمكن أن يطلع عليها إلا قلة قليلة في دائرة اتّخاذ القرار العسكري، فمن يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف.
  • باختصار شديد وتكثيف متعمد يمكن القول: الثابت الوحيد في الأمر أن الرد آتٍ ومؤلم أكثر مما يتوقع أكثر المتشائمين في الطرف المعادي، وهذا ليس تنبؤًا ولا تحليلًا ولا تقديرًا شخصيًا بل يقين يستند إلى تصريحات قادة جبهة المقاومة، وهؤلاء السادة إن قالوا صدقوا وفعلوا، وإن وعدوا وفوا، ومن يتابع ما ينشره الإعلام “الإسرائيلي” يدرك مدى التوّتر والقلق والخوف والهلع الذي يعمّ الكيان مستوطنين وعسكريين وقادة ومسؤولين في مختلف مفاصل المسؤولية، ومجرد حشر الكيان بكلّ مكوناته قي وضع كهذا يعتبر موضوعيًّا جزءًا من الرد والعقاب، فالرد حتمي، لكن توقيته، وشكله، ومسارح عملياته وشدته والأهداف التي سيطالها الانتقام، وكلّ ما يتعلق بأية تفاصيل أخرى يبقى قراره لدى قادة جبهة المقاومة، ورهن إشارتهم، وليس وفق توقيت العدوّ ولا وفق السيناريوهات التي يظنها الأصعب والأقسى، فالأقسى والأخطر مرهون بالميدان وحده، وبكيفية الرد على رد المقاومة على الاعتداءات والجرائم “الإسرائيلية” المرتكبة على مدار الساعة، وهذا لا يعني إسقاط الجانب الآخر من أية حرب محتملة، وهو المتعلّق بقدرة واشنطن و”تل أبيب” ومن معهما على التدمير الكبير الذي سيطال الجميع، لكن طاقة محور المقاومة على التحمل والتكيف مع أسوأ وضع قد تفرزه تداعيات الصراع تبلغ عشرات أضعاف ما لدى الأعداء، وهذه بحد ذاتها من أهم عوامل القوّة الذاتية غير القابلة للمصادرة لا اليوم ولا غدًا ولا ما بعد ذلك.

خلاصة:
الوضع القائم أكثر من خطير، والأفق مفتوح على كلّ الاحتمالات، ومن استطاع أن يجنب المنطقة أسوأ كارثة بافتعال حروب وقطيعة سنية ــ شيعية قادر اليوم على أن يحصن ما تم إنجازه، ويحرم الأعداء من إمكانية ترميم الردع، وما افتقدوه من هيبة وسطوة نفوذ لم تعد مضمونة حتّى لدى أكثر الأتباع انقيادًا للإرادة الصهيو ــ أميركية، وقد تكون إمكانية تفادي حرب شاملة ما تزال قائمة، لكنّها مرهونة بإيقاف الحرب على غزّة، وأي كلام آخر يبقى ضمن حِقَن التخدير الموضعي التي تؤجل مؤقتًا الألم الذي ما إن ينتهي مفعول المادّة المخدرة حتّى يعود أشد مما كان عليه، ولا أظن أن لدى واشنطن و”تل أبيب” ما يكفي لتخدير كلّ من يهمهم أمره إلى أمد طويل.

نعم لقد تجاوزت “تل أبيب” الخطوط الحمراء وكسرت قواعد الاشتباك، وعلى من يقامر بوجوده ووجود المنطقة بفعلته النكراء تلك أن يتيقن أنه سيجد نفسه أمام خطوط نار مقابل كلّ خط أحمر تم تجاوزه، وكما قال سماحة السيد نصر الله: “على العدوّ ومَن خلف العدوّ أن ينتظر ‏ردنا الآتي حتمًا إن شاء الله، لا ‏نقاش في هذا ولا جدل، وبيننا وبينكم الأيام والليالي ‏والميدان”.


د.حسن أحمد حس-دمشق

قدم للمقال محمد دجاني-القدس