أيضاً، صادف اليوم الواحد والثلاثين من تموز ذكرى ميلاد أخٍ قريبٍ في الوجدان والدم والمصير، بعيدٍ في المسافة، ولست أتحدث عن مسافةٍ عادية هنا، لأن فارق القارّات بيننا لا يطويه السفر، فإنني وإن اقتربت فلن أصل، حال بيننا قانون الغاب الغربي الذي أرسى قواعده على فلسطين وفي المنطقة، وحاصر غزة واستفرد بها كالجبانِ بعدَ أن ضمن أن الحواجز القانونية والدولية والإستعماريةِ الفكرية ستحول بين الناس وبين غزة.

كتب وقال: “اليوم أبلغ من العمر خمسة وثلاثين وثلاثون عاماً، فقدتُ كل شيء ولم أعد أملك سوى الذكريات، زوجتي وابني، أنا لستُ بخير بدونكم ولا خير في عمر يخلو منكم، أنتم حياتي التي سُلبت مني بلمح البصر، كانت أيامي أجمل بكم وستبقى أرواحكم ترافقني ما حييت”.

“أنا لستُ بخيرٍ بدونكم ولا خير في عمرٍ يخلو منكم”. ذكّرتني هذه الكلمات بفلسفة جلال الدين الرومي عن الناي، صوته حزين لأنه يحن إلى الشجرة التي انتُزع منها، ويظل صوت الناي يشير إلى ذلك الشجن والتوق إلى العودة. ولا يكون هذا التوق حاضراً إلا عندما تتجسد في روح الإنسان حالتي الفناء والبقاء معاً.

يعيش صديقي في غزة، حالة الفناء متجسدةً في عقله وفكره بزوجته وابنه، وحالة البقاء التي لا ترى للبقاءِ معنىً إلا بحضور الفناء. تشكل هذه الدورة حالة من التكامل الوجداني. فالفقد والفناء وجه لذات عملة الوجد والبقاء، وحضورهما في القلب زوالٌ لمعنى الدنيا وتعلقٌ بجوهرها، يعبر الصوفيون عن الجوهر بالله. وأعبر عنه بأنه التعلق بضرورة العدالة والحرية والسلام، تعلقاً من غير تكلف، تعلقٌ يرقى إلى مرحلة التجسد والتوحد مع تلك المفاهيم، لأن حضور الظلم والقمع والإرهاب قد نال من حياة ذلك الإنسان، فرفض ذلك كله، فحضر لديه النقيض بمقدار الرفض، حضرت الضرورة الملحة إلى العدالة والحرية والسلام بمقدار رفض الظلم والقمع والإرهاب، فصار إنساناً يعيش بالفناء والبقاء.

وما هي حالة الإنسان قبل أن يكون الفناء والبقاء متجسداً فيه؟!!

من أجل ذلك، أرسلتُ له كلماتٍ سيفهمها قريباً وقلتُ له: “…بل وهبوكَ حياةً، وستراها. قلبُك نظيفٌ وستراها”

إن قوة حضور المفاهيم في الأوقات العصيبة سلاحٌ فتاك يعصف بأشد الأمواج ويروضها، وقد لاحظنا ذلك بأثر كلمة “الحمدلله” التي قالها واحدٌ من أهل غزة وهو فوق بيته المهدّم، أثارت في الغرب الذي يعاني من الخواء الروحي الشجن، فتساءل الكثير منهم؟ لماذا يقولُ الحمدلله وقد خسر بيته؟ فما يعرفونه في الغرب بأن الناس تصاب بالجلطة أو يميلون إلى الإنتحار عند خسارة كل أملاكهم أو أموالهم في البورصة، فكيف يفكر أهل غزة عند المصائب؟

بل وإنني أقول لكَ بقلبٍ ملؤه حب الحياة ، احتفل بعيد ميلادكِ يا صديقي وابتسم، احتفل تمرداً وثورة، احتفل صموداً ورضى، ولنا لقاء قريب، بقاءً وفناءً.

آدم السرطاوي- 🇨🇦 كندا