في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عقد في ولاية نيوهامشاير New Hampshire في بالولايات المتحدة مؤتمر برايتون وودز Bretton Woodsوضم زعماء الدول المنتصرة، ونتجت عن هذا المؤتمر الشهير اتفاقية اقتصادية تحدد الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد الحرب، وتؤسس للنظام المالي الدولي الذي يعيش العالم تحت سطوته إلى الآن. وكان الهدف الرئيسي المعلن من اتفاقية برايتون وودز إنشاء نظام نقدي دولي تحت شعار “إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية للدول المتضررة من الحرب”، وتم التوقيع على اتفاقية برايتون وودز من عديد الدول ومن بينهم الاتحاد السوفياتي آنذاك.


بعد سبعين عاما من هيمنة النظام المالي العالمي الناتج عن اتفاقية برايتون وودز، والذي سَيَّدَ الدولار وجعله ورقة الحل والربط للنظام النقدي العالمي، نشهد اليوم ولادة نظام جديد يخطو بتؤدة وثبات نحو إنشاء علاقات بقوانين أكثر عدلاً ومساواة واحتراماً لسيادة الدول، وتعاملٍ ندّي بما يضمن المصالح الحيوية للبلدان ويحصن اقتصاداتها.
“نظام البريكس ولادة لعالم أكثر عدلا وأنسنة”، هكذا يصفه المتابعون والمحللون من دول الجنوب وغيرها، فهل يشهد هذا القرن انهياراً للإمبراطورية الأمريكية وجبروت الدولار وهيمنته، وتكون “كازان” شاهدة على هذا الانهيار؟..
يقدم لنا المحلل الجيوسياسي والجيواقتصادي الشهير Pépé Escobar في متابعة لما قدمناه في الورقة السابقة، مقارنة بين نظام برايتون وودز البريطاني الأمريكي الهرم ونظام “كازان” الروسي الصيني الجديد …،
هل يكون لنا بريكس “برايتون وودز” في كازان الآن؟؟
يقولEscobar ، لن يكون الآن برايتون وودز جديد، ولن يكون في كازان. ولكن من المؤكد أنه سيولد خلال بضع سنوات، وما رَشَحَ من نقاشات وتفاوض دام لسنتين بين الدول المؤسسة لنظام بريكس، هو قناعتهم باحتياج هذه المنظومة إلى “بريكس برايتون وودز” جديد، بينما يقول البعض الآخر أن البريكس سيكون نظاماً مختلفا ومتقدماً على برايتون وودز، وأن هذا التغيير الشامل يرعب حكام الولايات المتحدة والأطلسي، لأنه سينتج في الأخير نظامين، وسيقسم العالم إلى شطرين، الجنوب المتكامل Global South ويَعُدُّ ضرورة – وبطبيعته -، معظم بلدان العالم وكل من ينخرط في هذا المشروع الكبير لنظام بريكس برايتون وودز، في مقابل نظام الولايات المتحدة وحلفائها، وأنه حتما سيتبلور بريكس برايتون وودز جديد، ولكنه يحتاج إلى مزيدا من الوقت والعمل والجهد، ويستلزم تحقيقه عشرية من الزمن.
أما عن موقع الهند في هذه الدينامية الجديدة يقولPépé Escobar ،  النظام الجديد يفترض التخلص من الدولار، والهند إضافة الى تطور علاقتها بروسيا هي حليفة للإمبراطورية الأمريكية ويرتبط اقتصادها أساساً بالدولار، زائد أن الغرب يعول كثيراً على الهند ويحاول توظيف جغرافيتها لمحاصرة الصين والتضييق عليها، فهو فرض على الهند دور المنافس الرئيسي للصين، ولكن لحساب مصالحه كما نعرف لا خدمة للهند، وفي المقابل فإن البريكس الذي تقوده روسيا والصين ويضم الهند بما لها من قدرات وقوة، يفترض أن تكون فيه لاعباً وازناً وفاعلاً، فهل تفلح الهند في هذا المسار وهذا الدور الجديد ووسط التغيرات الكبرى التي نشهد؟..


من خلال كثير من المحادثات والنقاشات مع نخب وأكاديميين من الهند في منتدى Vladivostok، استمعنا الى عديد التصريحات عن المشاكل الداخلية للهند. فالنخب الهندية يعتبرون أن الحكومة الحالية هي لعنة على الهند، رغم أن أصحاب القرار في الهند بدأوا يتفطنون الى أن اجتماع الكواد Quadهو بمثابة الورطة، (الرباعية أو “الكواد”، مجموعة أمنية استراتيجية تركز على منطقة المحيطين الهندي والهادي، تترأسها أمريكا وتضم زعماء أستراليا والهند واليابان).
ونذكر أنه في خضم فعاليات هذا اللقاء وخلال أحد الاجتماعات، تحدث أحد المسؤولين الهنود دون الانتباه إلى المايكرو المفتوح، فقال: “من سيكون الجديد في قائمة الزومبي، (نسبة للأمريكان)، إن هذا البرنامج، (أي برنامج الكواد)، هو آلية لتحقيق إغلاق شامل على الصين”، وهذا يوحي صراحة بأن الهند بدأت تفهم ما يحصل حقيقة، ولأن لها علاقات متطورة مع الصين ومع إيران، فإنها تعي تماماً أن الكريدور الذي سيفتح جنوب الشمال، لتيسير حركة النقل، يبدأ قريباً بالاشتغال وبشكل كامل، وأنه منجز عظيم وخدمة كبيرة للمؤسسات الاقتصادية الهندية، إذ سيفتح لها أفاقاً تجارية وتبادلية في كل جغرافيا أوراسيا، أفاق لم تكن لتحلم بها لولا البريكس.
من المهم التذكير بأن الاستثمارات الهندية المشتركة مع إيران تضمنت ميناء شاباهار في جنوب إيران، وطريق شاباهار على الحدود مع أفغانستان، وقد ساهمت الهند في بنائه وتعبيده، فهل ستتخلى الهند عن كل هذه المشاريع الكبرى وهي في جوهر مصلحتها.

إن اشتغال طريق شاباهار الذي يربط بين حدود الهند وأفغانستان وآسيا الوسطى، لا يمكن إلا أن يكون عنصر نجاح نوعي يضاف إلى كل ما أنشئ من مشاريع مشتركة بين إيران والهند، وكلاهما أعضاء في البريكس، وهو فَتْحٌ لأفق تجاري كبير وعظيم بالنسبة للهند. والآن تتوجه الهند في تفكيرها وتخطيطها لهذا الممرات التجارية الجديدة التي لم تكن أبداً ممكنة خارج البريكس. الهند ترى بوضوح امتداد هذا الانفتاح الجديد الذي يتيح لها التواجد القوي والفاعل في منطقة أوراسيا. وحكام الهند على وعي تام اليوم أن ما يقدمه الأمريكيون لبلادهم لا يمكن أن يضاهي أو يقارن بهذا الكم من الفرص الذهبية لتجارتهم ومؤسساتهم مع مجموعة البريكس، وأبداً لن يقدم لهم الأمريكان شيئاً يساوي هذه المشاريع الاستثمارية الضخمة والفرص العظيمة للنمو الاقتصادي. علماً بأن نية الأمريكان في تحويل الهند إلى مقاطعة تابعة لهم تُسْتخدم لحصار الصين صار أمر واقع ومعلوم وغير مخفي على أحد. ورغم كل هذا لن تبتعد الهند عن أمريكا ولن تعيد النظر في علاقاتها معها، ليس بعد وليس الآن، إذ عليها أن تجد الحلول الملائمة لتعقيدات أوضاعها الداخلية والبدائل الدائمة لها قبل أي خطوة في ذلك الاتجاه درءا للأخطار المحتملة. ولكن المؤكد أن اللعب مع الأمريكان ضد الصين يعتبر انتحاراً جيوسياسياً وجيواقتصادياً للهند.


وما يعطل فهما وافيا وضافيا للأوضاع الداخلية للهند هو تخلف البنية الأساسية لقطاع النقل، فلا يمكن أن تتعرف على جغرافيا ومدن الهند بسهولة نظراً لغياب وسائل النقل ما ينتج عنه تَقَطُّع المدن بعضها عن البعض، خلافاً للصين وروسيا فهما يتميزان بشبكة طرقات ونقل متنوع ومتطور وبنية تحتية متقدمة جداً.
أما عن استراتيجية بوتين لمواجهة الضغط الهائل الذي يتعرض له، بسبب الحرب في أوكرانيا، ومع اقتراب الحسم الانتخابي في أمريكا، فكل هذا يتوقف على مستخلصات طاولة المفاوضات في قمة البريكس، علما بأن رئاسة بريكس هي لروسيا بوتين، ومجموعة البريكس تتبع مساراً وأجندة صنعتا في روسيا. لذا وجب التنويه أن الروس يتجنبون المخاطر والانزلاقات وسوء الفهم وينصتون كثيراً وللجميع، ولزام عليهم الآن تبني خطابا ورسائل متناغمة ومطمئنة، تشرك الجميع في خاتمة القمة. أما فيما يخص الانتخابات الأمريكية فالموقف الروسي ثابت وواقعي وبوتين مستعد لكل الفرضيات وجاهز لها.
بعد أيام يلتقي زعماء العالم في قمة ال جي20 G20- بمدينة ريو، ومن المعروف أن العالم اعتاد خطبها الجوفاء ومقرراتها الهباء. ال جي20 اليوم منقسم بين الغرب الأطلسي و”الجنوب المتكامل”Global South الذي يمثله أعضاء مجموعة البريكس وهم أيضاً أعضاء ال جي20. النتيجة هي انقسام ال جي 20، وعجزه عن تقديم الجديد والحلول. في المقابل سيذهب قادة البريكس إلى مدينة ريو لفرض رؤاهم وحلولهم، ولن يقبلوا هذه المرة بما يفرضه الغرب. فهم ذاهبون بملف جاهز وموقف قوي، وهذا معلوم لدى الروس والصينيين والإيرانيين. ولذلك نرى توجه الأوروبيين، الذين يريدون الاستثمار في إيران كما كان الأمر قبل العقوبات، للتقارب مع الإيرانيين.


ما وجب التأكيد عليه أن أركان البريكس من الدول المؤسسة تتفق حول القضايا الجوهرية والمفتاحية، وأهمها الموقف من الإبادة الجماعية في فلسطين، ودعم فلسطين والمطالبة بسيادة الدولة الفلسطينية على أرضها، والموقف من الإسلام عموماً. وهم عكس الأمريكي، يراهنون على الملياري مسلم لينخرطوا في مشروعهم، وهذا أمر عظيم.
السؤال: كيف سيحولون هذه الإرادة والرؤى وهذا المشروع الضخم، إلى فعلٍ وبرامج عملية تُطَبق كما أُرِيدَ لها نظرياً؟، هذا ما سوف نشهده ونتعرف عليه في الأيام والأسابيع القادمة.
هند يحي