التمحيص هو موقف يحدث ويحمل في طياته غموضاً شديداً وسؤالاً طارئاً: من الذي ثبت؟ ومن يمكن الوثوق به لتحمل الأعباء والمسؤولية؟
وغالباً ما يبدأ التمحيص عند حدوث فراغٍ يتطلب المبادرة من الآخرين. فعند غياب القائد، يطرح السؤال نفسه بقوة: من منكم يمتلك الشجاعة والتضحية والولاء بقدر ما كان يحمله القائد الغائب؟
ولكن فلننتبه، إن ذلك لا يعني أن غياب أي قائد بالضرورة يُعد تمحيصاً. فعندما يغيب المنصَّبون من بريطانيا أو رؤساء الدول الغربية مثلاً والذين هم في حقيقتهم موظفو خدمة للجمهور ويقدمون منافع خدمية فقط، لا يكون هناك تمحيص حقيقي، والسبب أن هناك فرق بين قائد يعمل لأجل نظام ويحقق أهداف نظام، وقائد يثور على النظام وينتقده ويكشف عواره.
بصورة أوضح، إن غياب السنوار يمثل تمحيصاً حقيقياً وصعباً لمن يأتي بعده، لأنه قد وضع المعايير عاليةً جداً، فالمعيار هو “الطوفان” وأثمانه، فمن يخلفه عليه أن يحافظ على تلك المعايير بل ويتجاوزها. وهكذا يبرز السؤال التمحيصي: من منكم يمتلك الشجاعة والتضحية والولاء بقدر ما كان يحمله القائد الغائب؟
هذا تمحيصٌ من الدرجة الأولى للفرد الذي سيعقب القائد. ماذا عن الرسالة العميقة التي يطرحها الحدث والموقف على الإنسانية جمعاء؟
إن مدى أحقية قضية فلسطين ومدى نصاعتها ووضوحها يفرضان على الناس سؤالاً تمحيصياً صعباً: إذا كانت القضية الفلسطينية حقاً محضاً لنا، وإذا كانت قوة العدو غاشمةً أقوى من وجودنا، فماذا سنفعل؟
بإمكاننا أيضاً أن نصوغ عملية التمحيص على شكل جملة أمرية تحمل إجابة للسؤال التمحيصي، كأنهما وجهان لعملة واحدة، وهذه الجملة هي: “كونوا مع الحق حتى لو لم تستطيعوا تحرير فلسطين”. وهذا يعني مواجهة العدو بثباتٍ، حتى لو كانت نهايته الفناء، ولا تراجع.
“كونوا مع الحق حتى لو لم تستطيعوا تحرير فلسطين”. هذه ليست جملة تشخيصية لحالة راهنة، فالكيان إلى زوال. ولكن مقدار الثبات الذي قد يفرزنا جميعاً قد يصل إلى حد الخيارات الوجودية لكل فرد منا. بهذه الغربلة الشديدة، سترتقي القيم الإنسانية لدينا حتى يصبح النصر استحقاقاً، لأن هذه هي القوانين الناظمة للوجود، حقيقتها أنها تتجه نحو إحقاق الحق. ولولا هذه الديناميكية لما كان هناك طوفان، ولما كنا هنا اليوم، ولا سبيل لدينا إلا أن نركب موجة الحق والحقيقة إلى منتهاها.
آدم السرطاوي – كندا