في السابع من أكتوبر 2023، انطلقت عملية “طوفان الأقصى” كحدث كبير له دلالات تتجاوز الأبعاد السياسية والعسكرية المباشرة. هذا الحدث الذي هز أركان الكيان الصهيوني يمثل تحولًا فلسفيًا في فهم معنى المقاومة الفلسطينية، حيث يركز على مفاهيم العدالة والوجود والتحرر في مواجهة الظلم والقهر. عندما نستلهم من التراث الفلسفي العربي والإسلامي لإعادة فهم هذا الحدث من خلال منظور فلسفي، يؤكد ذلك على حتمية النصر ويعزز الصمود.
المقاومة كعمل تحرري
يرى الفيلسوف العربي ابن خلدون أن التضامن او حسب تعبيره ( العصبية ) هي قوة جماعية تجمع الأفراد في مواجهة الظروف والتحديات القاسية. وتعتبر هذه العصبية أداة لبناء المجتمعات القادرة على المقاومة. في هذا السياق، يمكن القول إن “طوفان الأقصى” هو تعبير عن التضامن فلسطيني، حيث تتوحد قوى المقاومة للدفاع عن الوجود الفلسطيني والمقدسات. هذه الوحدة هي إرادة تحرر جماعي تنبع من الحق الطبيعي في الوجود والكرامة، وليست مجرد رد فعل على الاحتلال.
من منظور غسان كنفاني، و نرى ذلك متجليا في اعماله مثل ( عائد الى حيفا) و ( رجال في الشمس) المقاومة تتجاوز الفعل المادي لتصبح جوهرًا وجوديًا وفعلًا تحرريًا يعكس صراع الإنسان مع الاغتراب و القهر الذي يفرضه الاحتلال. في فلسفته، المقاومة هي محاولة مستمرة لاستعادة الوجود الفلسطيني المسلوب، حيث يرتبط الكفاح بالدفاع عن الذات والكرامة و ليست مجرد رد فعل على الاحتلال .
المقاومة هنا هي تمثيل للإنسان الذي يرفض الهيمنة بكل تجلياتها، سواء كانت جسدية أو فكرية. “طوفان الأقصى”، وفق هذا المفهوم، هو انعكاس لرفض الفلسطيني لواقعه المفروض، وتجسيد لحركة تحررية شاملة تعيد للإنسان وعيه وحقه في أن يكون سيدًا على مصيره، حيث يصبح التحرر من القمع هو السبيل إلى استعادة المعنى والهوية و ليس مجرد فعل عسكري
الاقتصاد كأداة مقاومة: دمار الكيان الصهيوني
في عالم مليء بالقوى الاقتصادية الكبرى، فإن أحد أهم مظاهر الصراع هو تفكيك الاقتصاد الاستعماري. إذا كان الكيان الصهيوني قد بنى اقتصاده على سرقة الموارد واستغلال الأراضي الفلسطينية، فإن المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة يطرحان استراتيجية لتفكيك هذا الاقتصاد من الداخل. كما قال الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي: “إن القوة التي تحكم التاريخ ليست المادة بل الأفكار”. فإن قوة فكرة المقاومة التي تسعى لتفكيك هذا الكيان الاستعماري القائم على الظلم أدت إلى حملات مقاطعة واسعة الانتشار في كل أنحاء العالم، وحفزت محور المقاومة بكل دوله وفصائله على ابتكار تكتيكات واستراتيجيات عسكرية وتكنولوجيا لصناعة سلاح ومعدات أثبتت تفوقها. لنرى الهجمات المركزة والمستمرة على البنى التحتية والمراكز الحيوية للكيان.
تفكيك الاقتصاد في الكيان الصهيوني هو جزء من مشروع طويل الأمد يهدف إلى القضاء على القاعدة التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني في بقائه. إذ مع تراجع قيمة الشيكل وهروب الاستثمارات الدولية، يتزايد التفكك في بنية دولة الكيان وليس هدفًا عابرًا. هنا تلتقي الممارسات الميدانية مع الأفكار الفلسفية، حيث تصبح المقاومة وسيلة لإعادة تشكيل المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا.
العدالة الإلهية
تحدث الإمام الغزالي عن مفهوم العدالة الإلهية كمبدأ يحكم الكون ويعاقب الظالمين في نهاية المطاف. في هذا الإطار، تأتي المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة كتجسيد لهذه العدالة الإلهية التي تحطم كل قوة ظالمة تحاول السيطرة على الإنسان والأرض. من منظور الغزالي، لا يمكن للظلم أن يدوم مهما كانت قوته، لأن نواميس الكون تقف بجانب المستضعفين والمظلومين، مما يجعل المقاومة قوة تعبير عن الإرادة الإلهية ضد الظلم.
أما الفيلسوف ابن رشد فقد رأى أن العدالة هي “إعطاء كل ذي حق حقه”، وهذا هو جوهر النضال الفلسطيني. العدالة بالنسبة للفلسطينيين هي مبدأ أخلاقي وديني وفلسفي يستند إليه في مقاومة الاحتلال، وليست مجرد مطلب. العدالة تُفهم هنا على أنها التحرر الكامل من كل أشكال الاستبداد، وإن النصر في “طوفان الأقصى” هو إعادة تصحيح للتوازن الطبيعي في الكون، حيث ينتصر الحق على الباطل.
المقاومة كأداة للتحرر
يتحدث جلال الدين الرومي عن القوة الروحية في مواجهة الظلم، حيث يرى أن الحقيقة تكمن في الداخل وليس في الخارج. المقاومة بهذا المبدأ تصبح قوة روحية لا تنهزم ولا تنكسر أمام القهر المادي. “طوفان الأقصى” هو تعبير عن هذه القوة لدى الفلسطينيين التي تدفعهم لمواصلة النضال، حيث يجدون في إيمانهم بالقضية القوة اللازمة لمواجهة قوة الكيان المادية.
من جهة أخرى، أكد مالك بن نبي في فكره حول الحضارة أن الحرية تبدأ من تحرير الأفكار، وأن التحرر الفكري هو البداية لتحرير المجتمع من الاستعمار. “طوفان الأقصى” هو إعلان عن ولادة جيل جديد يحمل فكرة التحرير الشامل من الاحتلال وإعادة بناء الذات الفلسطينية، وليس معركة عسكرية فقط. هذا الجيل يسعى لتحرير الإنسان من الاستلاب الفكري الذي فرضه الاستعمار لعقود، وليس لتحرير الأرض فقط.
الخلاصة: طوفان الأقصى فلسفة تحررية
يمكن القول إن “طوفان الأقصى” هو فكرة وفلسفة تحررية عميقة وليست عملية عسكرية فحسب. المقاومة الفلسطينية بتجسدها في هذه العملية تحمل رسالة فلسفية وأخلاقية ودينية تتعلق بالعدالة والحرية ورفض الظلم. الفلاسفة العرب والمسلمون من ابن رشد إلى مالك بن نبي إلى ابن خلدون والغزالي و محمد عبده قدموا لنا أدوات فكرية تساعد على فهم المقاومة باعتبارها فعلًا تحرريًا يتجاوز الجغرافيا والزمن.
هذا الطوفان يهدف إلى تحرير الروح والإنسان من كل أشكال القهر والظلم، ولا يقف عند حدود الأرض والسياسة. في كل خطوة تخطوها المقاومة، يتجدد الإيمان بأن العدالة ستنتصر، وأن القوة تكمن في الفكرة التي تحرك الشعوب نحو الحرية وليست فقط بالسلاح.
خالد دراوشه – الأردن