عام 2017م عندما رحل والدي ولاقى ربّه، كان الشعور غريباً يفوق شعور الألم المجرد. كان شكلُ الألم يشبه الشعور بانتزاع القلب من مكانه بشكل مفاجئ وصادم. ثم مر بعض الوقت حتى أمكنني التصديق برحيله، وقد حدث هذا الأمر بشكل تدريجي، فقد كانت تمر الأيام وتمر المواقف والأوقات والسنوات بدونه، فإن خرجت من المنزل صباحاً أو عدتُ إليه مساءً أتذكر مكان جلوسه فأصدق رحيله قليلاً، وإن جاء العيد ومر بنا دونه أصدق قليلاً، وإن حصل طارئ لم أجد من يمدني بالروح والقوة التي تهوّن كل المصائب أصدق أكثر، حتى ظلت ذكراه حاضره في كل المواقف التي كان له أو كان يجب أن يكون له فيها مكان حتى صدقت بأنه قد رحل.

خلاصة القول، هناك شيءٌ أسميه “دورة الألم”، وهي الوقت الذي يمر بالإنسان ويتذكر فيه من فقدهم حتى يصدق بأنهم حقاً رحلوا. بعض الناس نصدق أنهم رحلوا في أسبوع، حيث لم يكن لهم نصيبٌ كبيرٌ من الزمان والمكان معنا، وبعض الناس نمر بكل الذكريات معهم في سنة، أما الأب فإن دورة الألم تمر وتكتمل حتى تشعر أنك أنتَ أبوك.

الأب ليس هو الوالد، الأب هو صاحب المنهج والطريقة، صاحب الأجوبة والإلهامات، صاحب البصيرة والخبرة، سواءٌ أكان والداً أم لم يكن. كان والدي أباً، وما زلت إلى اليوم أعيش على أجوبته وأطورها، بل وإنني إلى اليوم أتزود وأنهل من لحظات الدعاء التي أمدني بها بالقوة قبل سنواتٍ من رحيله، فلم يكن والدي عاديا، فقد كانت يده شافيه، ودعواته لي كافية، وكان مصدراً لليقين، إلى درجة أنني أستمد منه الروح والكفاية إلى هذا اليوم.

إن ما ينطبق على الفرد ينطبق على المجموعة، فمثلاً، المجتمع الفاضل أفراده صادقون بطبعهم، والأفراد الصادقون ينتجون مجتمعاً فاضلاً. وهذه القاعدة هي أصل علم النفس الإجتماعي القائم اليوم وتأسست عليه. وكذلك أيضاً، ألم الفرد لفقد أبيه هو ذاته ألم الأمة عند فقد أبيها، وستمر الأمة بوعيها بذات المراحل التي يمر بها الفرد.

وفي هذه الأيام تعتصر قلوب الأمة على فقد الأب السيد حسن نصر الله، وستمر الأمة بوعيها بدورة الألم لتصدّق رحيل السيّد بشكل تدريجي، ستمر المواقف والأحداث والعواصف الهوجاء بدونه وسنستذكره مراراً وعلى الدوام وسنقول: “وكأن السيد كان يعلم بأن هذا سيحدث”. وسنقول: “لو كان السيد هنا، لفعل كذا وكذا”، وسنقول: “ماذا كان سيقول السيد في هذا الموقف؟” وسنقول: “قال سنصلي في القدس، ها نحن نصلي في القدس”.

السيد منهج، وطريقة، وأسلوب تفكير، وأجوبة، وإلهامات، وبصيرة، وخبرة. سَيُكسِبُنا ألم فَقدِهِ كل هذه المعالم والصفات، حتى نصبح السيد. وعلى قدر الألم يكون الوفاء والتوفية. والأكثر وفاءً سيفهمون روح الفكرة التي كان ينطلق منها السيد في أجوبته ومواقفه وإلهاماته، حتى كأن روح السيد تُبعث فيهم من جديد.

ألم يقل الله: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون”؟! أليست الحياة هي الحركة والنبض والمحبة والنمو والتكاثر والتعاظم؟! فليس السيد من الأموات وإن غاب عنا حضور الجسد، وليس هذا من المجاز والتشبيه العاطفي في شيء، وإنما هي الديناميكية الإنسانية التي أوصلت ثأر الحسين إلى عامنا هذا بالألم والوفاء، وهي التي جعلت نضالنا مستمراً لأجل فلسطين برغم الأجيال التي تعاقبت عليها محاولات التجهيل والتطبيع والتغييب بالألم والوفاء، هي الديناميكية التي جعلت أحرار العالم يقفون الموقف الصلب من قوة الاستبداد والظلم الأمريكية بالألم والوفاء، وهي الديناميكية التي لأجلها لم يستطع الظلم والباطل يوماً أن يسحق الحقيقة والعدالة لينهيها تماماً.

بالألم والوفاء، شهادة السيد حسن نصر الله إنذارٌ لأمرٍ عظيم سيحدث، وضمانة خالصةٌ على الطريق بأن النهج سيدوم وإن عصفت بنا أشد الأهوال القادمة، لأن ديناميكية خلود السيد قد بدأت.

آدم السرطاوي – كندا