قدّم السيد الرئيس بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية خلال الفترة الواقعة بين عامي 2000 و 2011 رؤية لتغيير السياسة الاقتصادية السورية باتجاه الانفتاح، وأطلق سيادته حينها انطلاقاً من هذا الفكر منهجية “البحار الأربعة” عام 2004 ثم تمت إضافة البحر الأحمر إلى القائمة في مرحلة لاحقة.
أطلق الرئيس الأسد تلك الرؤية ليقينه بأهمية موقع سورية الجغرافي وميزاته، حيث تقع سورية في مركز الطاقة الإقليمية وشبكة النقل البري والبحري.
شرح الرئيس الأسد رؤيته الموسعة عام 2009 كما يأتي: “عندما يتحد الاقتصاد بين سوريا، تركيا، العراق، وإيران سوف نربط بين البحر المتوسط والأسود وقزوين والخليج ….. نحن لسنا مهتمين فقط بالشرق الأوسط ….. عندما نربط هذه البحار الأربعة سوف نصبح التقاطع الإجباري للعالم بأكمله في مجالات الاستثمار، النقل والكثير”
سلطت رؤية البحار الخمسة الضوء على الدول المفتاحية لهذه الرؤية، كخطر استراتيجي لأميركا والغرب، وفي مقدمة هذه الدول سورية، تركيا، إيران، العراق، لبنان، روسيا، الصين، رومانيا، أوكرانيا، أذربيجان -التي نراها اليوم رقعاً جغرافية متباعدة من الصراع الحالي- حيث تلعب (سوريا، تركيا، إيران) دور نواة لمنهج يضم كلاً من العراق والقوقاز في اتصال جغرافي يربط البحار الخمسة.
رؤية لو تحققت لربطت القوقاز في الشمال مع دول الخليج في الجنوب وإيران في الشرق وجنوب أوروبا غرباً، مما يحقق ربحاً لحوالي (600) مليون مستفيد على الأقل، رقم هز النظام العالمي الجديد المزعوم تطبيقه من قبل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، ورؤية شكلت خطراً يهدد أركان العالم أحادي القطبية من وجهة نظر الجيوبوليتيك.
رؤية البحار الخمسة أيضاً دفعت الاستراتيجي الروسي أليكسندر دوغين عام (2020) إلى أن يعلن رؤيته بأن هناك دولاً مثل روسيا والصين والهند وباكستان والعديد من الدول العربية والإفريقية والأوروبية تستطيع أن تؤمن بنفسها استقلالاً حقيقياً، فقط من خلال خلق تحالف أوراسي جيوبوليتيكي متعدد الأقطاب.
رؤية البحار الخمسة وبعدها رؤية دوغين ونظريته الأوراسية تترجم على أرض الواقع بانتقال مركز ثقل العالم من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب، وذلك نتيجة تزايد ثقل اللاعبين في الأسواق الناشئة، أي بعبارة أخرى استبدال النموذج المسيطر لأمركة العالم بنموذج “عولمة أميركا” من خلال صعود الصين والهند ودول متقدمة أخرى. ويمكن توضيح نموذج “عولمة أميركا” بأنه تشارك عالمي يهدف إلى سوق عالمية متعددة اللاعبين.
بالعودة إلى النموذج الأميركي المتمثل بالنموذج العالمي الجديد أحادي القطب الفريد، من خلال سياسة التدخل العسكري مثل الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وسياسة القوة الناعمة وسياسة العقوبات الاقتصادية، وثم الحرب المركبة على سورية والتي استخدمت فيها أميركا جميع السياسات السابقة؛ هذا النموذج الأميركي – الذي فشل في جميع سيناريوهاته السابقة – دفع الدول التي تم استهدافها ودول العالم المجاورة التي كانت شاهداً على الأحداث، إلى اليقظة والمسارعة إلى خلق تحالفات متعددة اقتصادية وعسكرية وسياسية.
بعد مراجعة للعقدين الماضيين لنعود إلى الحاضر الحالي بأحداثه الراهنة، والتي يتصدرها عالمياً وإقليمياً طوفان الأقصى وما بعد الطوفان، الذي سنحتفل بذكرى ولادته الأولى بعد أسابيع، نرى أن الطوفان واقع يبرهن سعة رؤية السيد الرئيس بشار الأسد في أهمية سورية والدول المجاورة في ربط البحار الخمسة – سواء رأيناها من وجهة نظر الصديق أو العدو –
طوفان غزة – التي تقع ضمن حوض البحار الخمسة وفي مركزها – هو خطوةٌ مقاوِمةٌ استباقية في لحظة تاريخية لا تحتمل تأخيراً في مواجهة مخطط صهيوأميركي حديث. غزة التي تقع في فلسطين العربية على الفالق الجيوسياسي حيث تم زرع الكيان الصهيوني ليكون نواة لمشروع أميركي قديم حديث؛ قديمٍ يتمثل في نهب ثروات “الشرق الأوسط” أي دول غرب آسيا، والذي يملك أكثر من 42% من المخزون الاحتياطي العالمي للغاز أي حوالي (199) تريليون متر مكعب، ومشروعٍ أميركيٍ حديثٍ بإصداراته المختلفة سواء التي طرحتها كوندليزا رايس عام 2006 او بريجنسكي عام 2012 حيث يرى غرب آسيا قوس الأزمات ومدخل أميركا إلى أوراسيا؛ هذا المشروع الأميركي الحديث ما هو إلا رد على رؤية البحار الخمسة، بعد أن أدركت أميركا خطورة هذه الرؤية فيما لو أصبحت حقيقة تدمر أركان النظام العالمي أحادي القطب، من خلال تحقيق نظام تشاركي، وفق معادلة ربح-ربح لجميع اللاعبين في تحقيقه.
نجحت أميركا في إفشال مشروع ربط البحار الخمسة، لكنها لم تنجح في قتل روح هذا المشروع التي رأيناها عام 2024 على شكل اتحاد جبهات محور المقاومة السبعة، التي فاجأت العالم بقدراتها نصرةً لغزة؛ من لبنان إلى سورية، العراق، اليمن، إيران، الشارع الأردني المقاوم، الفصائل المقاومة في الضفة الغربية.
فقد رأينا جبهة سورية بصمودها ودعمها المادي والسياسي والعقائدي والمعنوي لأهلنا في غزة، ورأينا اليمن الذي أجبر السفن الأميركية وحلفاءها على رفع الرايات البيضاء في البحر الأحمر، ورأينا المقاومة العراقية التي تحدت قواعد الاحتلال الأميركي، وجبهة إيران حيث تداخلت ساحتها مع ساحة غزة بمواقف عديدة آخرها استشهاد القائد المقاوم إسماعيل هنية داخل أرض إيران، والمقاومة في جنوب لبنان التي أنهكت العدو الصهيوني وأذهلته بتطورها العملياتي والعسكري والتقني والعلمي والعقائدي، بالإضافة إلى الشارع الأردني الذي سينفجر قريباً في وجه سياسات التطبيع، وسابع الجبهات جبهة الضفة الغربية التي ستثمر حتماً بطوفان يوازي طوفان غزة.
رؤية البحار الخمسة رؤية سبقت حاضراً أمام أعيننا اليوم، حاضراً فرضه منطق الجغرافيا والجيوبوليتيك وإرادة الشعوب، حاضراً رفضه الشيطان الأميركي وكيانه اللقيط وحلفاؤه، ممثَلين بالعديد من الدول التي لمست تهديداً لمصالحها الاستعمارية في غرب آسيا، ودول لم تعي بعد أنها أضاعت فرصة تاريخية لها ولشعوبها عندما لحقت بالركب الأميركي على حساب مشروع عالمي يجلب لها ربحاً تشاركياً، وعلى حساب استقلال شعوبها من استعمار اقتصادي يصب في مصلحة أميركا فقط، من خلال إزهاق دماء الأبرياء ونهب ثروات الدول وقتل الإنسانية جمعاء.
بحار خمسة لن تستقر مياهها ولن تهدأ شواطئها إلا بعالم متعدد الأقطاب والتحالفات، عالم يمهد له انتصار غزة قريباً وانتصار محور المقاومة وحلفائه في العالم.