تكثّفت في الآونة الأخيرة زيارات القادة الإسرائيليين إلى جبهة الشمال، وأعلن الجيش الإسرائيلي، الموافقة على الخطط العملياتية للهجوم على لبنان، مع إعطاء تعليمات باستمرار الاستعداد للحرب.

حضر رئيس حكومة إسرائيل، مناورة تشكيل “رأس الحربة” للواء المظلي 55 من قوات الاحتياط، واستمع من قائد المنطقة الشمالية الجنرال أوري غوردين وقادة الألوية والكتائب إلى شرح، حول أداء المقاتلين الذين شاركوا في الحرب في غزة. 

وقال نتنياهو أنه أعطى الأمر، بتغيير الوضع القائم على جبهة الشمال.

وزار رئيس أركان جيش العدو الإسرائيلي هارتسي هاليفي الجبهة أيضاً،  وأكّد خلال جولة له في الجولان، أن قواته تستعد لاتخاذ خطوات هجومية داخل لبنان.

ثم توّج قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي مايكل إريك كوريلا، زيارته لإسرائيل يوم الأحد الماضي، بزيارة قيادة منطقة الشمال، وأجرى تقييماً للوضع في غرفة العمليات، حيث عُرضت عليه الخطط العملياتية للجيش الإسرائيلي في لبنان.

وكان وزير الدفاع الإسرائيلي زار الحدود الشمالية، واطّلع على التدريبات التي أجراها اللواء التاسع، التي تحاكي عمليات قتالية داخل الأراضي اللبنانية، وقال للمقاتلين: “الثقل ينتقل الآن نحو الشمال، نحن على وشك استكمال مهامنا في الجنوب، لكن لدينا هنا مهمة لم تُنفذ بعد، وهي تغيير الوضع الأمني وإعادة السكان إلى منازلهم”.

ثم تحدثت بعض وسائل الإعلام عن خطة عسكرية إسرائيلية لغزو لبنان عن طريق الأراضي السورية، في محاولة لفصل منطقة البقاع عن الجنوب، وقطع الإمداد على حزب الله.

في مبادئ القتال، غالباً تُنفّذ القوات الهجوم الجبهي المباشر، وتقوم بعمليات اختراق لمواقع العدو، وهذه أقصر طُرق الهجوم،  لكنها تحتاج إلى تفوق كبير في القوى والقدرة على اختراق جبهة العدو، أو تُنفّذ عندما تكون دفاعات العدو ضعيفة.

عندما تكون دفاعات العدو قوية وحصينة، تعمد القوات إلى الالتفاف من الجانب الأضعف لمواقع العدو، وتهاجم من الجوانب أو الخلف.

ارتكزت خطط القتال في القرن العشرين على الهجوم الخاطف لسلاح الدبابات، المدعومة بالمشاة الآلية، وسُمّيت الدبابات بقوة الصدم، كما كانت تقوم أفواج المظليين، بتنفيذ عمليات إنزال خلف خطوط العدو.

بعد تطور سلاح المضاد للدروع، ودخول الصواريخ الموجهة إلى ميدان المعركة، شلّت هذه عمل المدرعات، فمدى الرمي المباشر الفعال في أحدث الدبابات لا يتجاوز 4 كلم، بينما أصبح مدى صواريخ المضاد للدروع، يفوق 10 كلم، بدقة إصابة تفوق 99%

السلاح الأخطر اليوم بات سلاح المسيرات، التي تفوقت في جوانب عديدة، بحيث يُمكن صنعها من مواد غير معدنية، مما يجعلها شبحية لا يمكن كشفها من قبل الرادارات، هذا إضافة إلى كلفتها البسيطة في غالب الأحيان، والقدرة على توجيهها بعدة طُرق، لتنفذ مهاماً متنوعة من؛ الرصد، والمراقبة، والاستطلاع، وإرسال الصور إلى مراكز القيادة في نفس اللحظة، وبعضها تحول إلى قذائف ذكية أو موجهة، تصل وتصيب أهدافها بدقة.

هذا إضافة إلى قدراتها على الطيران لمسافات بعيدة، ومدة بقاء في الجو تفوق 72 ساعة، وهذه مدة كافية لتشكل خطراً كبيراً على حركة العدو وتحشّداته، ولضرب الأهداف في عمق دفاعاته. 

والميزة المهمة أيضاً، هي سهولة تشغيل المسيّرات والتحكم بها من مكان آمن، ويحتاج الجندي إلى وقت قصير للتعلم على توجيه واستخدام المسيرات.

وكل هذه المزايا تعطيها أفضلية في الاستخدام، مقارنة مع الطيران الحربي، الذي يحتاج إلى مطارات ومدارج طيران كبيرة، وضجيجه مرتفع، وكذلك تكلفته، بحيث يصل ثمن بعض الطائرات إلى مئة مليون دولار، والطلعة الواحدة للطائرة تكلف أكثر من عشرة آلاف دولار، وقد تصل إلى مئة ألف في بعض الطائرات، بحسب المهمة طبعاً.

هذا إضافة إلى مخاطر إسقاطها من قبل الدفاعات الجوية للعدو، وخسارة الطيار، الذي يلزم إعداده عدة سنوات ليصبح مؤهلاً على قيادة الطائرة.

العامل الرئيسي أيضاً في أي معركة هو طبيعة الأرض، فالقتال يتخذ شكلاً خاصاً عندما يجري القتال داخل المدن، أو في المناطق الجبلية، حيث تصبح الممرات إلزامية للآليات، وتحدُّ من حركة المهاجم وقدرته على المناورة، بينما تؤمن هذه المناطق مكاناً مثالياً للدفاع، وإقامة التحصينات والعوائق وتنفيذ الكمائن.

أسرد هذه الملاحظات باختصار، لأوضح شكل المواجهة المحتملة في جنوب لبنان، بين العدو الإسرائيلي والمقاومة.

معظم مناطق جنوب لبنان هي جبلية ومنحدرات، ترتفع صعوداً من الجنوب باتجاه الشمال، مما يعطي أفضلية للقوات المتمركزة على المرتفعات، وتحكمها ممرات إلزامية، تحد من قدرة الجيش على الحركة والمناورة، هذا إضافة إلى وجود تجمعات سكنية كبيرة، بأبنية متينة من الخرسانة المسلحة، التي يصعب أن تتهدم بسهولة.

تملك إسرائيل تفوقاً بعدة أنواع من الأسلحة، خاصة سلاح الطيران الحربي، ولديها قدرة تدميرية عالية، لكل ما هو فوق الأرض.

لكن المقاومة في غزة وفي لبنان أدركت نقاط قوة – وكذلك نقاط ضعف – الإسرائيلي، فأعدّت العدة تحت الأرض، في ملاجئ وأنفاق، تؤمن لها الحماية والسرية، والقدرة على الصمود، وإطلاق النيران الفعالة، لفترات طويلة، كما تسمح لها بالاحتفاظ بالقيادة والسيطرة في أي معركة مع إسرائيل.

منذ فترات طويلة يحاول الإسرائيليون بالتعاون مع الأمريكيين والبريطانيين، اكتشاف أماكن تواجد المقاومة ومراكزها العسكرية، خاصة منصات إطلاق الصواريخ والأنفاق، وتستخدم الرادارات الطبقية التي ترسل موجات كهرومغناطيسية، والمجسّات القادرة على تحديد الحركة تحت الأرض، وصور الأقمار الصناعية والمسيرات، لكشف شبكة أنفاق المقاومة، ورسم خرائط افتراضية لها ولتشعّباتها.

يدرك الإسرائيليون أن سلاح الطيران لديهم قادر على التدمير، لكنه غير قادر على فرض سيطرة القوات ورفع العلم، ولو على تلة صغيرة، وبالتالي هناك حاجة للقوات البرية، التي في حال دخولها إلى لبنان، ستمطرها المقاومة بصواريخ المضاد للدروع، وتُحوّلها إلى مجرد خردة.

ولقد تعلمت إسرائيل درساً قاسياً، من معركة وادي “الحجير” وما حدث في 11 آب عام 2006, لدبابات الميركافا التي اندفعت عبر طريق جبلي إلزامي صعب نحو النبطية، فوقعت تحت وابل من نيران صواريخ “الكورنيت” الحديثة، التي أمطرها بها رجال المقاومة، فاشتعلت الدبابات وانقلبت رأساً على عقب، وتطايرت أبراجها، وتحوّلت إلى حطام، خلال دقائق معدودة، وقُتل فيها أكثر من 33 ضابط وجندي، وجُرح حوالي 400 آخرين من جنود العدو وتم إسقاط مروحية حاولت تنفيذ عملية إنقاذ.

لذلك يطرح الإسرائيلي خطة الالتفاف على المقاومة من جهة الشرق، سواءً عبر سوريا، أم عبر مزارع شبعا، نحو وادي “جنعم” وصولاً إلى راشيا الوادي.

بالنسبة للدخول عبر الأراضي السورية، فهي فكرة غبية طبعاً، لأنه على تلك القوات أن تواجه الجيش السوري والمقاتلين المنتشرين في جنوب سوريا، من إيران وحزب الله، إضافة إلى خطر الاحتكاك بالقوات الروسية الموجودة في تلال القنيطرة.

كما أن القوات الإسرائيلية ستكون مُجبرة على اجتياز مسافة تفوق 50 كلم داخل سوريا، قبل أن تتجه نحو لبنان، من منطقة دير العشاير الجبلية الوعرة ايضاً، أو عبر معبر المصنع، لتقطع طريق الشام بيروت.

هذا الانتشار الواسع للجيش الإسرائيلي سيحتاج إلى عدد كبير من القوات، كما سيجعلها أهدافاً سهلة، ولا يمكن أن يفكّر بمثل هذه الخطة والمناورة ضابط حقيقي، يجيد تقدير الموقف بشكل سليم.

أما عملية الدخول عبر وادي “جنعم”، فهي مناورة سبق أن نفذها الجيش الإسرائيلي في اجتياح عام 1982، لكنها لن تفيده اليوم كثيراً، فالسيطرة على تلك المرتفعات، لن يؤثر إطلاقاً على قدرة المقاومة في إطلاق الصواريخ والمسيرات إلى عمق إسرائيل.

الخطة الوحيدة التي يقبلها المنطق العسكري، هي الهجوم المباشر على لبنان، من المحاور الثلاثة التي سبق لشارون أن غزا لبنان عبرها عام 1982, والتقدم لخلق منطقة عازلة على طول الحدود، بعمق بين 10 و 15 كلم.

لكن هذه الخطوة كما قال قائد القيادة المركزية الجنرال الأمريكي مايكل كوريلا، لحلفائه الإسرائيليين، عندما زار الجبهة الشمالية، واستمع إلى بعض التقارير العسكرية، هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر، وسيتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في الآليات والعناصر، ولن يتمكن من منع سقوط صواريخ المقاومة، على أهداف حيوية واستراتيجية داخل إسرائيل.

وحذر كوريلا الإسرائيليين من الإقدام على أي عمل بري، لأن حزب الله سيفرض منطقة عازلة داخل إسرائيل، وعلى طول الحدود، وعليهم أن يستعدّوا لترحيل مئات آلاف المستوطنين.

ربما يحاول نتنياهو الهروب إلى الأمام، عبر تصعيد القصف الجوي للأراضي اللبنانية، وكان يحاول أيضاً حرف الأنظار نحو الضفة الغربية، للتغطية على فشله وإخفاقات جيشه في غزة، لكن هذا لن يحقق له الأهداف المرجوة، سوى إطالة أمد حكومته، بانتظار وصول ترامب إلى الرئاسة في أمريكا، والذي سيأمره بعدها بوقف الحرب، والذهاب إلى صفقة مع حماس.

وفق كل المؤشرات فإن الحرب ما زالت طويلة، لكن التهويل على لبنان لن يعيد مستوطني الشمال، ولن يخيف المقاومة في لبنان، وتلك المناورات الإعلامية والعسكرية في شمال فلسطين المحتلة، تُظهر عجز الجيش الإسرائيلي، وعدم قدرته على تحقيق أي إنجاز، لا بل بات ضباطه يتحدثون عن كيفية حماية المستوطنات من هجوم  لحزب الله عليها، في حال اندلاع الحرب الشاملة، وأكثر ما يقلقهم أن تكون هناك أنفاق، تصل من لبنان إلى عمق الكيان الإسرائيلي ومستوطناته في الشمال.

الخبير في أسلحة الدمار الشامل والقانون الدولي الجنرال أكرم كمال سريوي – لبنان