حاورته الصحافية لمى الشطلي..
ماهر الطاهر:آن الأوان لاستنهاض الفكر القومي العربي لمواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي وحماية القضية الفلسطينية
آن الأوان لاستنهاض الفكر القومي العربي لمواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي وحماية القضية الفلسطينية
انتخابي أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي يمثل قبل أي شيء تكريماً لفلسطين وللشعب الفلسطيني.”
“المؤتمر ليس حزباً بل إطار مرجعي يقدم رؤية للمشروع النهضوي العربي.”
“الفكر القومي يحتاج مراجعة نقدية عميقة واستخلاصاً لدروس الماضي.”

ومن اللافت أن القرار يتجاهل، بشكل كامل، الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. فقد أشارت منظمة العفو الدولية نفسها إلى أن القرار لم يذكر إطلاقاً حرب الإبادة التي تعرّض لها الفلسطينيون، والتي وقع ضحيتها ما يزيد على 250 ألف شهيد وجريح، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ولم يتطرق القرار بأي صورة إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، ولم يطالب بإنهاء الاحتلال أو الانسحاب من الأراضي الفلسطينية.
أما الإشارة الغامضة إلى “إصلاح السلطة الفلسطينية” واعتبار ذلك مقدمة لعملية سياسية نحو مسار قد يؤدي الى إقامة دولة فلسطينية، فهي في رأينا محاولة للتضليل وصناعة وهم سياسي لا يعكس حقيقة الأهداف المطروحة.
لذلك، أعلنت الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي رفضها الصريح لهذا القرار، ودعت الجماهير العربية إلى التحرك، وطالبت الدول العربية والإسلامية باتخاذ مواقف عملية وفعالة لمساندة الشعب الفلسطيني في مواجهة كل محاولات تصفية قضيته الوطنية.
هناك من يرى أن المؤتمر القومي العربي لم يعد يعكس نبض الشارع العربي كما كان في العقود الماضية، وأن دوره أصبح أقرب إلى تمثيل وفود شكلية. كيف تردّون على هذا الانطباع؟
المؤتمر القومي العربي هو بالأساس مرجعية قومية تضم نخبة من المثقفين والممارسين العرب، وهو ليس حزباً، بل إطار مرجعي يقدم رؤية شاملة للمشروع النهضوي العربي. ومن خلال هذه الرؤية، طرح المؤتمر مشروعاً للنهوض بالأمة العربية، الذي يقوم على ركائز أساسية تشمل: الوحدة العربية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، الاستقلال الوطني والقومي، التجدد الحضاري، وتحرير فلسطين.
ويعقد المؤتمر دورته سنوياً لمناقشة واقع الأمة العربية، وتقديم أوراق عمل وأفكار تشكل مرجعية ومرشداً للقوى الشعبية في الساحة العربية للنهوض بأوضاع أمتنا. وباعتقادي، فإن المؤتمر استطاع تحقيق العديد من النجاحات، ويظهر ذلك من صموده واستمراره على مدى 35 عاماً.
ومن المهم الإشارة إلى أن حضور هذه الدورات يتحمل تكلفتها الأعضاء أنفسهم، بما يشمل تذاكر السفر والإقامة والطعام، بالإضافة إلى الاشتراك السنوي الذي لا يقل عن 100 دولار. ورغم هذه التكاليف والأعباء، استمر المؤتمر في أداء مهامه، وكانت الدورة الرابعة والثلاثون التي انعقدت في بيروت بحضور نحو 250 شخصية دليلاً واضحاً على الالتزام العميق لقناعات أعضائه ورسالة المؤتمر.
لذلك، أرى أن مسيرة المؤتمر القومي العربي مستمرة ومتواصلة، وستظل كذلك في المستقبل. ومع ذلك، هناك حاجة لتطوير العمل المؤسسي للمؤتمر، وتقديم مقترحات عملية لتفعيل الحركة الشعبية العربية، بما يضمن قدرتنا على مواجهة التحديات التاريخية الكبرى التي تواجه الأمة العربية اليوم.
المنطقة العربية تواجه خطراً جوهرياً إذا انتقل المشروع الأمريكي إلى حيّز التنفيذ، خاصة أن فلسطين ستكون الساحة الأولى. ما طبيعة هذا الخطر؟ وكيف ينعكس على مستقبل القضية الفلسطينية وعلى المشروع القومي العربي؟
المشروع الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في قلب وطننا العربي بدأ منذ احتلال فلسطين أو أجزاء منها عام 1948، وتوسع لاحقاً إلى احتلال كامل فلسطين عام 1967 بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، كما شمل احتلال أراضٍ عربية أخرى في سيناء والجولان. وبالتالي، نحن أمام مشروع استعماري خطير لا تقتصر أهدافه على السيطرة على فلسطين فحسب، بل يمتد ليشمل الوطن العربي بأسره.
اليوم، نحن نمر بمرحلة تاريخية حرجة، إذ يسعى هذا المشروع، المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية، إلى السيطرة الكاملة على المنطقة العربية. هذا الأمر مرتبط بالصراع الدولي على مستوى الأقطاب الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، روسيا ودول مجموعة البريكس، في ظل صراع عالمي محتدم بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية التي تسعى للحفاظ على هيمنة القطب الواحد. الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحاول الحفاظ على موقعها كقطب عالمي محدد لمصير العالم، وتسعى للسيطرة على المنطقة العربية لكونها منطقة استراتيجية حيوية، غنية بالموارد وممرات مائية مهمة، مستفيدة في ذلك من المشروع الصهيوني لتحقيق أهدافها.
إلا أن المشروع الصهيوني بدأ يواجه تحديات كبيرة نتيجة صمود الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للتدخل المباشر، بعدما تبين لها أن الكيان الصهيوني لم يعد قادراً على تنفيذ المهمات الموكلة إليه بالكامل. لذلك، نشهد اليوم وجوداً أمريكياً واسعاً يسعى للهيمنة على منطقتنا بشكل مباشر.
أما بالنسبة للمشروع القومي العربي، فإن هذا الخطر لا يهدد فلسطين فحسب، بل يشكل تهديداً حقيقياً وملموساً لكل المشروع النهضوي العربي الذي يهدف إلى توحيد الأمة العربية واستثمار طاقاتها وخيراتها.
في لحظة سياسية مصيرية، يحتدم الصراع بين مشروع المقاومة ومشاريع الهيمنة والوصاية، ويبرز دور المشروع القومي كأحد المشاريع المضادة، الإطار الناظم لرؤية عربية مشتركة لمواجهة الخطر الإمبريالي عبر المشروع الصهيوني المدعوم أمريكياً. يقدم الأمين العام للمؤتمر القومي العربي، الدكتور ماهر الطاهر، في حواره مع مجلة الهدف رؤية شاملة لطبيعة هذا الصراع، وللمخاطر التي تواجه القضية الفلسطينية في ظل محاولات فرض الوصاية الدولية على غزة، ويستعرض دلالات انتخابه أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي ودور المؤتمر في تعزيز الفكر القومي ومواجهة المشروع الأمريكي–الصهيوني.
أجرت الحوار الزميلة: لمى الشطلي
ما الذي يعنيه لكم انتخابكم أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي في هذا الظرف العربي الحساس؟ وكيف تقرؤون دلالات هذا التكليف في ظل ما تمرّ به الأمة من تحديات سياسية واستراتيجية؟
لا شكّ أن انتخابي أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي في هذا الظرف العربي الدقيق يُمثّل، قبل أي شيء آخر، تكريماً لفلسطين وللشعب الفلسطيني الذي خاض ملحمة بطولية ستسجّل في التاريخ والذي شكل صفحة مجد مشرقة في مسيرة شعبنا وأمتنا وأحرار العالم كله. وقد جاء هذا الانتخاب بإجماع من الدورة الرابعة والثلاثين للمؤتمر، إدراكاً لرمزية أن يتولى فلسطيني هذه المسؤولية في لحظة دقيقة تمرّ بها القضية الفلسطينية، وما تتعرض له من مخاطر غير مسبوقة.
بالنسبة لي، فإن هذا التكليف جاء في وقت نواجه فيه –كشعب وأمة– تحديات تاريخية غير مسبوقة ومخاطر تستهدف التصفية الشاملة للقضية الفلسطينية. بل إن هذه المخاطر لم تعد محصورة بفلسطين وحدها، وإنما باتت تطال الأمة العربية بأسرها. فحين نتابع تصريحات نتنياهو الذي يتحدث عن “شرق أوسط جديد” وعن مشاريع توسعية كـ “إسرائيل من الفرات إلى النيل”، ندرك أننا أمام مرحلة تتطلب مسؤوليات جسيمة واستنفاراً عربياً شاملاً.
ومع ذلك، نحن على ثقة بأن شعبنا العربي والفلسطيني قادر على مواجهة هذه التحديات، مهما اشتدت الظروف وصعُبت اللحظة الراهنة، لأن إرادة الأمة كانت دائماً أقوى من كل المخططات التي استهدفتها عبر التاريخ.
شهد العالم مؤخراً تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي المتعلق بمرحلة ما بعد الحرب على غزة، والذي يرى كثيرون أنه يكرّس وصاية دولية جديدة على القطاع وربما على القضية الفلسطينية ككل. كيف تنظرون إلى هذا التطور؟
إن القرار الذي أصدره مجلس الأمن بأغلبية 13 صوتاً وامتناع كل من روسيا والصين، يشكّل في حقيقته محاولة لتحقيق ما عجز عنه الاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة خلال العامين الماضيين. فالاحتلال فشل في كسر إرادة شعبنا الفلسطيني، ولم يتمكن جيشه من إنهاء المقاومة أو القضاء عليها، كما فشل في استعادة أسراه بالقوة رغم التدمير الهائل والجرائم التي ارتكبها. هذا الفشل الذريع، الذي كان نتيجة مباشرة لصمود الشعب الفلسطيني، دفع نحو محاولة استثمار الأدوات السياسية والدولية لمنح الاحتلال ما لم يستطع تحقيقه عبر القوة العسكرية.
فالقرار يفرض وصاية دولية على قطاع غزة من خلال ما يسمى “مجلس السلام”، وهو نموذج يعيد إلى الأذهان تجربة الانتداب البريطاني على فلسطين، ذلك الانتداب الذي مهد الطريق لزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي. واليوم تُعاد صياغة الفكرة نفسها بصيغة جديدة، هدفها حماية الاحتلال وضمان استمراره، ومنح القوى الدولية صلاحيات حكم انتقالية وسيادية من شأنها إعادة إنتاج الاحتلال بأشكال مختلفة. وهذا ما يرفضه الشعب الفلسطيني والعربي، كما ترفضه قوى المقاومة كافة.
ومن أخطر ما ينطوي عليه القرار محاولة إخراج الشعب الفلسطيني ومرجعياته الوطنية من المعادلة السياسية، وفرض حلول تتجاهل وجود شعب مكافح قدّم تضحيات هائلة، وتستهدف تصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها. كما أن القرار يسعى بشكل واضح إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية عبر وصفها بالإرهاب، في تجاهل صارخ لحقيقة أن المقاومة حق مشروع تكفله القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة لأي شعب يقع تحت الاحتلال.
إضافة إلى ذلك، يستهدف القرار فصل قطاع غزة عن الضفة الفلسطينية والقدس ، بل وحتى تقسيم القطاع نفسه إلى مناطق تخضع للسيطرة الإسرائيلية. فالحكومة الإسرائيلية تعلن بوضوح أنها لا تريد الانسحاب من كامل قطاع غزة، وأنها تسعى للسيطرة على أكثر من 50% من أراضيه.
وبالتالي، يمكن القول إن الخطر جسيم ويطال الشعب الفلسطيني والأمة العربية بأسرها، ويستهدف المشروع القومي العربي وكل القوى الحية فيه، مما يستدعي يقظة ومواجهة شاملة لحماية مصالح الأمة العربية ومشروعها القومي النهضوي.
ما الآليات العملية التي يمكن للمؤتمر القومي العربي اعتمادها اليوم لحماية القضية الفلسطينية ومنع فرض ترتيبات دولية تُضعف الهوية والقرار العربيين؟
نحن ندرك حدود إمكانيات المؤتمر القومي العربي، فالمؤتمر ليس قادراً على تحمل أكثر مما يحتمل، لكنه يمثل مرجعية فكرية وثقافية، ويطرح رؤى وأفكاراً حول واقع الأمة العربية وكيفية النهوض بها. أما مواجهة التحديات التي تعصف بالأمة العربية فهي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق القوى الشعبية، بما في ذلك الأحزاب والقوى السياسية والنقابات والاتحادات، وكذلك الدول العربية التي تتصدى للمشروع الإمبريالي والصهيوني في المنطقة.
في هذا الإطار، يستطيع المؤتمر القومي العربي أن يلعب دوراً ثقافياً وتوجيهياً من خلال إطلاق الأفكار والمبادرات والرؤى التي توجه الفكر العربي في مواجهة هذه التحديات. نحن اليوم أمام خطر يستهدف الهوية العربية، إذ يسعى المشروع الصهيوني الإمبريالي، بدعم القوى الغربية، إلى فرض ما يُسمى بـ”شرق أوسط جديد”، أي محاولة تقويض الهوية العربية واستبدالها بهوية مزيفة لا علاقة لها بالتراث العربي والثقافي.
إن هذه المخاطر ليست مجرد تهديد سياسي أو عسكري فحسب، بل تهديد ثقافي شامل يطال التاريخ والحضارة والوجود العربي. ومن هنا، فإن الأمة أو أي شعب قد يخسر معركة سياسية أو عسكرية، لكن من غير المقبول أن نخسر المعركة الثقافية والهوية العربية في مواجهة التحديات الراهنة.
لذلك، يضطلع المؤتمر القومي العربي بدور أساسي في الحفاظ على الهوية العربية واستنهاض المشروع النهضوي العربي، مع التركيز على البعد الثقافي الذي يحمي الشخصية العربية ويعزز وعيها، ويصون جذورها التاريخية والثقافية في مواجهة محاولات التغييب والتشويه التي تستهدف الأمة.
يُطرح اليوم سؤال جوهري حول مستقبل المشروع النهضوي العربي: هل يبدأ الإحياء من مراجعة نقدية عميقة للتجربة القومية، أم من إعادة تعبئة الصفوف العربية خلف مشروع وحدوي بآليات جديدة؟
سألني أحد الكتاب العرب، وهو من الباحثين المعروفين، قائلاً: “ألا تعتقد أنه آن الأوان لأن نقول وداعاً للفكر القومي العربي وللعروبة، خاصة بعد ملحمة الطوفان الأقصى وحرب الإبادة التي مورست ضد الشعب الفلسطيني؟” وكان جوابي، وأنا مقتنع به بعمق، أن الوقت قد حان لإحياء واستنهاض الفكر القومي العربي، لأن خلاص أمتنا من المخاطر المحدقة بها من كل جانب لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العمل على تحقيق أهداف هذا الفكر.
هل هذه الأهداف غير واقعية؟ أليست هذه هي الأهداف التي يسعى إليها الشارع العربي والجماهير العربية حتى هذه اللحظة؟ صحيح أننا واجهنا أزمات وتراجعاً، وعلينا الاعتراف أن هناك تراجعاً في حركة الفكر القومي العربي، لكن هذا التراجع لا يعني فشل المفاهيم والمقولات التي طرحها هذا الفكر. المقولات والمفاهيم المتعلقة بالوحدة، والتحرر، وتحرير فلسطين، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، كانت ولا تزال وستبقى أهداف الجماهير العربية. هذه الأفكار والمقولات صالحة وحية، وتشكل في اعتقادي، الطريق الأساسي لخلاص أمتنا من التحديات والمخاطر التي تواجهها.
ومع ذلك، علينا الاعتراف بأن هذا الفكر يحتاج إلى تطوير ومراجعة نقدية ذاتية. يجب أن نسأل: أين أخطأنا؟ أين أصبنا؟ هل تصرفت الحوامل التي حملت هذا الفكر بطريقة سليمة؟ هل تحققت الأهداف والشعارات التي تم رفعها؟ هنا تكمن الحاجة لاستخلاص الدروس والعبر من تجربة ومسار العمل القومي خلال العقود الماضية.
على سبيل المثال، نحن كقوة شعبية عربية وكقوة سياسية، ولم نمتلك أيضاً كدول عربية، رؤية واضحة وموحدة لكيفية مواجهة المشروع الصهيوني. كانت هناك اجتهادات متباينة، ولا يزال البعض يعتقد أنه لا إمكانية للتعايش مع المشروع الصهيوني، وأنه صراع تاريخي غير قابل للحلول السياسية، وهذا ما برهنته مسيرة الأحداث خلال العقود الماضية. المشروع الصهيوني يسعى للسيطرة الكاملة على فلسطين، ويتنكر لوجود الشعب الفلسطيني وأي حقوق مشروعة له. بعض الأطراف كانت تدعو إلى الحل السياسي والتسوية أو التعايش مع هذا المشروع، مثل ما يسمى بحل الدولتين لم تتشكل رؤية موحدة لمواجهة هذا المشروع، وما زالت الحاجة قائمة لوضع رؤية عربية موحدة لمواجهة الخطر الصهيوني، قائمة على مبدأ أن فلسطين لها معنى واحد وهو تحرير كل ذرة من ترابها.
أيضاً، فيما يتعلق بالديمقراطية، فقد افتقدت الأمة خلال العقود الماضية الديمقراطية بمفهومها الشامل، ولم نتمكن من استنهاض طاقات شعوبنا ومؤسساتنا لدعم معركة التحرير ومواجهة العدو الصهيوني.
لم يتم استثمار الطاقات المجتمعية والأمة العربية والدول العربية بالشكل الأمثل لمواجهة هذا المشروع، في حين أن العدو الصهيوني استثمر طاقاته بدعم من القوى الإمبريالية والاستعمارية، وحقق أهدافه ووسع احتلاله لفلسطين والأراضي العربية، ولا يزال يطمح للسيطرة على المزيد.
كما أن تجربتنا السابقة شهدت غياب علاقة جدلية سليمة بين البعدين الوطني والقومي؛ إذ ركز البعض على العامل الوطني وتجاهل البعد القومي، في حين ركز البعض الآخر على البعد القومي وتجاهل العامل الوطني. من الضروري وجود رؤية عميقة للعلاقة بين البعدين الوطني والقومي. على سبيل المثال، الشعب الفلسطيني بحاجة إلى إبراز الشخصية الوطنية الفلسطينية لمواجهة المشروع الصهيوني الذي يسعى لتفكيك الكيانية الوطنية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه لا ينبغي تجاهل البعد القومي في هذا الصراع.
أما بالنسبة لجدل العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك، فنحن بحاجة إلى ربط وثيق بينهما، بحيث لا تؤثر أي خطوة تكتيكية على استراتيجيتنا في تحرير كامل تراب فلسطين. هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من التجربة السابقة، لضمان أن يكون المشروع القومي قادراً على التعلم من الماضي ورسم آفاق مستقبلية واضحة وواقعية، تستفيد من الأخطاء السابقة وتستجيب لتحديات الحاضر والمستقبل.
في ظل صعود مشروع التطبيع واتفاقيات إبراهام، وتراجع الأدوار العربية الرسمية، هل ما يزال المشروع القومي العربي يتمتع بجدوى وحضور في وعي الشعوب العربية؟ وكيف تقرؤون التناقض بين ما تريده الأنظمة وما تعبّر عنه الشعوب؟
أظهرت استفتاءات عديدة في مختلف البلدان العربية أن أكثر من 90% من أبناء الأمة العربية يرفضون التطبيع ويرفضون هذه الاتفاقات، إدراكاً منهم لحقيقة الخطر الصهيوني الذي يهدد الشعب العربي بأسره.
وللتوضيح، يمكن النظر إلى تجربة مصر وتجربة الأردن كمثالين حيّين على هذا الرفض الشعبي المستمر. ففي مصر، رغم توقيع اتفاقات رسمية مع الكيان الإسرائيلي، فإن الشعب المصري الأصيل رفض التطبيع بكل حزم، وأظهرت النقابات والاتحادات الشعبية موقفاً صارماً حين كان أي عضو يقوم بزيارة الكيان الصهيوني، حيث يتم فصله فوراً من النقابة. وبالمثل، في الأردن، على الرغم من توقيع اتفاقية وادي عربة، ظل الشعب الأردني الأصيل يرفض التطبيع ويرفض الانخراط في أي علاقات طبيعية مع الكيان الإسرائيلي.
هذا الرفض الشعبي المستمر يوضح أن الكيان الصهيوني يدرك إدراكاً تاماً أن شعوب الأمة العربية برمتها ترفض وجوده ومخططاته العدوانية، وأن أي محاولات لفرض التطبيع أو فرض ترتيبات سلام من طرف واحد لن تُغيّر موقف الشعوب العربية. لذلك، عندما يتحدث القادة الصهاينة عن “سلام الأقوياء” أو “سلام القوة”، فإن هذا يعكس إدراكهم العميق لرفض الشعب العربي الكامل لوجودهم ولأهدافهم التوسعية.
حتى تجربة اتفاقات أوسلو تظهر هذا الواقع بوضوح، فقد قدم الجانب الفلسطيني الرسمي تنازلات كبيرة، بما في ذلك الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وإلغاء بنود من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، والابتعاد عن العنف، ومع ذلك، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، لم يتم الاعتراف بأي دولة فلسطينية، بل استمر الكيان الصهيوني في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني ذاته ورفض أي حلول تلبي الحد الأدنى من مطالبه.
في هذا السياق، يلعب المشروع القومي العربي دوراً أساسياً في الحفاظ على الوعي العربي وصيانته أمام كل محاولات التطبيع. فالمؤتمر القومي العربي، من خلال طروحاته وأفكاره وأوراق العمل التي يقدمها للرأي العام، بالإضافة إلى ما يصدره مركز دراسات الوحدة العربية من كتب وأبحاث، يشكل حصانة فكرية وثقافية ضد محاولات كي الوعي لدى الشعب العربي والفلسطيني. وهذا الدور كان واضحاً خلال الأحداث الأخيرة، حيث فشل مشروع كي الوعي الذي حاول الكيان الصهيوني فرضه على الشعب الفلسطيني والشعب العربي، رغم الحروب ومحاولات التدمير والإبادة.
لقد برهن صمود الفلسطينيين، وخاصة في قطاع غزة لمدة عامين متتاليين، أن هذا الوعي العميق يشكل قوة مضادة للكيان الصهيوني، ويؤدي إلى نتائج معاكسة على العدو نفسه. فقد بدأ الكيان الصهيوني يشهد هجرة عكسية لعشرات الآلاف من مستوطنيه، مما يشكل خطراً استراتيجياً على مستقبل هذا الكيان، ويؤكد أن قوة الوعي القومي والشعبي العربي الفلسطيني لا يمكن كسرها أو محاصرتها، وأن المشروع القومي العربي لا يزال يشكل الدرع الحامي في وعي الشعوب العربية، والمحرك الرئيسي لاستنهاض الوعي والثقافة الوطنية والعربية لمواجهة كل مشاريع التطبيع والابتزاز السياسي.
ما الأدوات الواقعية والمؤسساتية التي يمكن للمؤتمر القومي العربي الاعتماد عليها لإعادة وصل ما انقطع بين الأجيال العربية والفكرة القومية، وإحياء الإيمان بجدوى المشروع النهضوي؟
لا شك أن الأمة العربية بحاجة ماسة إلى أدوات عملية لتعزيز الوعي القومي بين الأجيال الجديدة وضمان إدراكهم للمخاطر المحدقة بالأمة. ومن هذا المنطلق، يعمل المؤتمر القومي العربي على تعزيز التواصل مع الأحزاب والقوى الشعبية العربية والنقابات، بهدف طرح أفكار وخطوات عملية ملموسة تمكن الشباب والقوى الحية في الأمة من مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية بوعي وإدراك كاملين.
وفي هذا الإطار، يجدر الإشارة إلى أن المؤتمر القومي العربي لا يقتصر على عقد دورته السنوية فحسب، بل ينظم أيضاً كل عام دورة خاصة بمخيم الشباب القومي العربي. وقد عقد المؤتمر العديد من هذه الدورات في بلدان مختلفة مثل لبنان وتونس والعديد من الدول العربية الأخرى.
لقد كانت تجربة مخيم الشباب القومي العربي ناجحة بكل المقاييس، حيث حضرها أكثر من 150 شاباً وشابة من مختلف البلدان العربية في كل دورة. وخلال المخيم، يشارك الشباب في ندوات ومحاضرات، ويقدمون مبادرات، ويجرون مناقشات موسعة حول الأوضاع في بلدانهم وتجاربهم الوطنية، ويتبادلون الخبرات والرؤى، ويتعرفون على بعضهم البعض، مما يعزز روح التواصل والتعاون بين الأجيال العربية الجديدة.
وقد أثمرت هذه التجربة عن تواصل مستمر بين المشاركين بعد انتهاء المخيم، حيث تمكن العديد منهم من شغل مواقع ومراكز قيادية في بلدانهم، مع استمرارهم في التواصل وتبادل الخبرات. وتعتبر هذه التجربة نموذجاً قيماً يثبت إمكانية بناء أجيال عربية واعية وملتزمة بالمشروع القومي العربي، كما أنها توفر أرضية صلبة لتعزيز العمل المشترك بين الشباب العربي في مختلف الدول.
ومن هذا المنطلق، يؤكد المؤتمر القومي العربي على ضرورة متابعة وتطوير تجربة مخيم الشباب القومي العربي في المرحلة القادمة، بهدف تعزيز فاعليتها، وتوسيع قاعدة المشاركين، وتقديم برامج أكثر شمولية تتوافق مع احتياجات الأجيال العربية الجديدة، لضمان استمرار استنهاض الوعي القومي العربي والحفاظ على المشروع النهضوي العربي في مواجهة التحديات المعاصرة.
كيف تقيمون العلاقة اليوم بين القوى الشعبية العربية والقوى الرسمية؟ وهل ترون إمكانية لولادة كتلة تاريخية عربية جديدة تجمع بين قوى التحرر والقوى القومية والمجتمع المدني في مواجهة المشروع الأمريكي–الإسرائيلي؟
نحن بحاجة ماسة إلى بناء كتلة تاريخية، وهو المفهوم الذي طرحه المؤتمر القومي العربي كإطار عملي لتوحيد الطاقات المختلفة في الوطن العربي. وتعني الكتلة التاريخية أننا يجب أن نعمل على جمع التيارات الفكرية والسياسية المتنوعة في الساحة العربية، والتي تتبنى موقفاً معارضاً للاستعمار والإمبريالية والمشروع الصهيوني، وتعمل جميعها على حماية مصالح الأمة العربية ومستقبلها.
فالساحة العربية اليوم تضم قوى متعددة ومتنوعة: هناك التيار القومي، والتيار اليساري، والتيار الليبرالي، والتيار الإسلامي ، وكل منها يحمل رؤية مختلفة حول كيفية معالجة الأوضاع في المنطقة. غير أن المرحلة الماضية شهدت جهوداً ممنهجة من قبل الاستعمار والقوى الصهيونية لتفتيت هذه القوى، وإشعال النزاعات فيما بينها، وذلك لضمان استمرار الهيمنة على المنطقة وعرقلة أي جهود نحو الوحدة والتكامل. فقد سعت تلك القوى إلى إشعال الصدامات بين الفكر القومي والفكر الإسلامي، أو بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي، بهدف إضعاف كل تيار على حدة ومنع أي تنسيق جماعي بين القوى الوطنية والقومية.
من الاستخلاصات الأساسية التي أفرزتها التجربة التاريخية للقرن الماضي أن كل تيار من هذه التيارات قدم إسهامات وأفكاراً مهمة. فالفكر القومي شدد على أهمية الوحدة العربية وركز على هذا المفصل الحيوي في مستقبل الأمة. أما الفكر الإسلامي، فقد حمل ويحمل الموروث الحضاري للأمة العربية، وقدم التيار الجهادي الإسلامي نماذج مشرفة من الصمود والمقاومة ضد الاحتلال. والتيار اليساري قدم رؤية دقيقة للواقع الاجتماعي وأهمية بناء مجتمعات ترفض التبعية وتحقق العدالة الاجتماعية والمساواة.
اليوم، المطلوب هو العمل على توحيد هذه الطاقات المختلفة ضمن إطار الكتلة التاريخية، بالتركيز على القواسم المشتركة، بعيداً عن النزاعات والاختلافات الثانوية التي أضعفت العمل المشترك في الماضي. هذه الكتلة التاريخية يجب أن تضم التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، بالإضافة إلى النقابات والاتحادات، لتشكل قوة مجتمعية جامعة تستنهض طاقات الأمة العربية بمختلف توجهاتها، وتضعها في مواجهة المشروع الصهيوني الإمبريالي الذي يستهدف الأمة بأكملها.
إن تشكيل هذه الكتلة التاريخية ليس خياراً ثانوياً، بل هو ضرورة استراتيجية لإعادة بناء وحدة الطاقات العربية، والحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، وتحقيق مشروع نهضوي عربي قادر على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، بما يضمن حماية مصالح الأمة وأمنها القومي على المدى الطويل.
أنتم قيادي بارز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واليوم تتولون موقع الأمين العام للمؤتمر القومي العربي. كيف يتقاطع المشروع الفكري والسياسي للجبهة الشعبية مع الرؤية القومية العربية التي يحملها المؤتمر؟ وهل ترون نقاط تلاقٍ يمكن البناء عليها؟ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي تنظيم فلسطيني، مؤمن بعمق بالقومية العربية والبعد العربي للقضية الفلسطينية، وتنظيم يساري ملتزم بتحقيق العدالة الاجتماعية والاشتراكية ووقف استغلال الإنسان بالإنسان، وله بعده الأممي. على هذا الأساس، ترى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها تنسجم إلى حد كبير مع الأفكار التي يطرحها المؤتمر القومي العربي.
نحن في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نؤمن إيماناً عميقاً بأن قضية فلسطين قضية عربية، وأن تحريرها يتطلب طاقات الأمة العربية بأسرها، وليس الشعب الفلسطيني وحده. ورغم الأوضاع المعقدة التي نواجهها اليوم في الحالة العربية، فإننا على قناعة راسخة بأن الشعب العربي أيضاً مؤمن بأن قضية فلسطين هي قضيته، ولذلك رفض التطبيع. كما أن الأجيال الجديدة تؤمن إيماناً عميقاً بعدم شرعية وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولا شرعية لوجود هذا الكيان على الأرض العربية.
أما فيما يتعلق بنقاط الالتقاء بين رؤية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأفكار المؤتمر القومي العربي، فإن المشروع النهضوي العربي يمثل مشروعنا الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. منذ تأسيس الجبهة، أكدنا على الوحدة العربية، والديمقراطية، والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي ورفض التبعية، بالإضافة إلى التجدد الحضاري، إذ ينبغي أن يكون لدينا مشروع إنساني مرتبط بحضارات العالم، ويتفاعل مع كل القوى العالمية المؤمنة بالحرية والعدالة، ومواجهة الإمبريالية التي تمثل عدواً للشعوب وللإنسانية.
وبناءً على ذلك، فإن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ترى أن انسجامها مع المؤتمر القومي العربي ، وأن المشروع النهضوي العربي هو الإطار الذي يجمع بين رؤى الجبهة ومبادئ المؤتمر، ويشكل المشروع الذي يسعى إلى تحقيق أهداف الأمة العربية وحماية قضيتها المركزية، فلسطين، في ظل كل التحديات الراهنة.

لمى الشطلي
صحفية فلسطينية
