يتّضح اليوم أكثر من أي وقت مضى أنّ ما يجري في لبنان والمنطقة ليس مسألة حدود أو اشتباك ظرفي، بل هو جزء من معركة أكبر تُخاض على موارد الطاقة لإعادة رسم موازين القوى. فلبنان، ولا سيما جنوبه، يمتلك موقعاً استراتيجياً وموارد واعدة من الغاز تجعله محوراً أساسياً في أيّ تصوّر للطاقة في شرق المتوسّط.
وهذه الحقيقة تُفسّر جزءاً كبيراً من الاهتمام المتزايد تجاه حدوده البحرية والبرية، كما تُفسّر محاولات بعض الأطراف تثبيت نفوذها عبر مشاريع الطاقة.
إنّ الاتفاقيات التي أبرمها الجانب الإسرائيلي مع قبرص لتصدير الغاز إلى أوروبا لم تكن معزولة عن هذا السياق، بل تمت وفق رؤية إقليمية تضع شرق المتوسط كبديل محتمل عن الغاز الروسي بعد الحرب الأوكرانية–الروسية.
وقد تمّ إقصاء تركيا من هذه الخارطة في مراحل معينة، ما دفع أنقرة إلى إعادة تموضعها السياسي والاقتصادي، فيما انعكس ذلك بدوره على مواقفها في الملفات السورية واللبنانية.
وعلى هذا الخط نفسه، يبرز ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، والذي تمّ في ظروف سياسية ودبلوماسية أثارت نقاشات واسعة في الداخل اللبناني، خصوصاً لجهة الضغوط الدولية ومسار اتخاذ القرار.
هذه التطورات تضع تساؤلات مشروعة حول الخلفيات الحقيقية لمحادثات اقتصادية بدأت بين لبنان والجانب الإسرائيلي، وما إذا كانت مرتبطة بإعادة توزيع مكامن الطاقة لا أكثر.من هنا يصبح مفهوماً تماماً لماذا نشهد تقارباً تركياً–إيرانياً رغم اختلافاتهما العميقة؛ فالتداخلات في لبنان وسوريا وغزة تجعل من المصالح المشتركة حقيقة متغيّرة تُفرض بظروف المرحلة لا بمبادئ ثابتة. التحالفات اليوم ليست نهائية، بل هي شبكات متحركة تتبدل وفقاً للضغوط الدولية وموازين الردع والمصالح الاقتصادية.
ولعلّ أوروبا ستكون المستفيد الأكبر من أيّ ترتيبات جديدة، بعدما دفعتها الحرب في أوكرانيا إلى البحث المحموم عن بدائل للغاز الروسي. وهكذا انتقلت مواقع مثل لبنان، قبرص، وشرق المتوسط المحتل إلى قلب استراتيجية الطاقة الأوروبية الجديدة، وهو ما يفسر جانباً من الضغط الأميركي المكثف على بيروت.إنّ الظن بأنّ ما يجري محلي أو إقليمي فقط هو قراءة قاصرة؛ فالمشهد بأكمله جزء من صراع دولي على النفوذ والموارد.
إسرائيل، في هذا السياق، تسعى إلى تأمين محيطها والسيطرة على مسارات الطاقة، بما يشبه إلى حدّ بعيد النظرة الأميركية لثروات فنزويلا. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستنجح هذه المشاريع في إعادة نفوذ بدأ يتراجع، أم أنّ القوى المقاومة في المنطقة، ومعها إيران ومن قد ينضم إليهم، ستفرض واقعاً مغايراً؟
كما يقول المثل السياسي المعاصر:”في الجغرافيا السياسية، ليست الخرائط هي التي تصنع الصراع، بل الموارد التي تحرّك تلك الخرائط.”والآتي قد يحمل مفاجآت كثيرة، لأنّ صراع الطاقة في شرق المتوسط لم يصل بعد إلى نهايته.
فاتنة علي-لبنان-سوريا الكبرى
