– منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى حرص وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على التأكيد أن هويته العقائدية في خلفية موقفه المطلق إلى جانب كيان الاحتلال، تتقدّم على صفته الوظيفية كوزير لخارجيّة الدولة العظمى، ويبدو من تداعيات أدائه التفاوضي أكثر من مرة أنه يرتكب بسبب هذه العقائدية الخطأ تلو الآخر، وربما يكون في جولته الأخيرة قد ارتكب الخطأ القاتل.
– في عدة زيارات الى المنطقة كانت جولات بلينكن مخصصة تحت عنوان الملف التفاوضي لتعزيز موقف كيان الاحتلال، وفي العرض التفاوضي الشهير الذي قدّمه في شهر نيسان خلال زيارته السابعة، كانت المراحل التي يجري الحديث عنها اليوم تظهر للمرة الأولى، وفقاً للتقسيمات ذاتها بينها، وكان التفاوض حول التهدئة المستدامة كما ورد في نص بلينكن يبدأ في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، لكن دون الحديث عما يحدث في حال عدم التوصل الى اتفاق، وكان هذا سبب رفض حركة حماس للعرض، فكان أن وصل مدير المخابرات الأميركية وليم بيرنز الى المنطقة ممثلاً الدولة الأميركية العميقة، الهادفة الى اطالة أمد المسعى التفاوضي، وتمّت صياغة العرض المعدل الذي يقول بأن المرحلة الثانية تبدأ مع إعلان بدء التهدئة المستدامة وتنتهي بإعلان فك الحصار بصورة نهائيّة، وهي المرحلة التي تتضمن الإفراج عن الأسرى الأحياء من الذكور من جنود جيش الاحتلال ومستوطنيه، وهذا هو العرض الذي قبلته حماس في 6 أيار، ورفضه بنيامين نتنياهو متمسكاً بعرض بلينكن، لكن المفاوضات استمرّت.
– بعد التصعيد الخطير الذي مثلته استهدافات الكيان لبيروت وطهران، واغتيال قائدين بمكانة إسماعيل هنية وفؤاد شكر، سارعت واشنطن لإصدار بيان طلبت توقيع الرئيس المصري وأمير قطر عليه للدعوة إلى المفاوضات، وهي تدرك أن المطلوب هو احتواء التصعيد بجولات تفاوض، ليس مطلوباً منها أن تصل الى نتيجة، بل ان تشكل ستاراً سياسياً يحجب فرصة الردّ المقرّر من كل من إيران وحزب الله على العمليات الإسرائيلية. وعندما أعلنت حركة حماس رفض المشاركة في مفاوضات حول بنود إطار اتفاق يفترض أنه محسوم، وفقاً لمبادرة الرئيس بايدن ونص قرار مجلس الأمن 2735، وأنها مستعدة لبحث خطة تنفيذية لهذا الاتفاق، صارت المفاوضات عملياً أميركية إسرائيلية، ودارت جولة الدوحة بين الوفد الإسرائيلي ووليام بيرنز، حول طلبات نتنياهو، ورغم الكلام عن مقترح أميركي، كان معلوماً أن الأمر ينتظر ما سوف يفعله بلينكن مع نتنياهو.
– مع وصول بلينكن إلى تل أبيب كان الوفد الإسرائيلي المفاوض ينتظر ضغطاً أميركياً على نتنياهو يمارسه بلينكن للحصول على موافقة إسرائيلية من نتنياهو تضمن الانسحاب الكامل من غزة وفقاً لنصيحة الجيش والأجهزة الأمنية، ما يمثل فرصة لإحداث اختراق تفاوضي، ومعه تسليم بقبول إنهاء الحرب كضمانة للحصول على كل الأسرى في غزة، ورغم تعنّت نتنياهو كان الجميع على يقين أنه لا يستطيع مع حجم الحماية الأميركية بوجه الرد الإيراني، أن يقول لا للطلب الأميركي، وفي أسوأ الحالات كان يكفي عدم نجاح بلينكن في إنهاء المفاوضات بالصيغة التي تمّت وأعلن خلالها أن التفاهم تم مع نتنياهو، وأن الكرة في ملعب حماس التي يجب أن توافق على الصفقة التي قبلها نتنياهو، كي تبقى اللعبة التفاوضية قائمة وتؤدي الوظيفة المطلوبة منها، وهي تشكيل ستار يحجب رد إيران وحزب الله ويربك حساباته ويشوش عليه، لكن عقائدية بلينكن دفعته للتماهي مع نتنياهو وتبني مقاربته وتضمينها لما أسماه بالمقترح الأميركي طالباً من حماس الموافقة عليه.
– عملياً أدى كلام بلينكن إلى إعلان فشل المفاوضات، وأعاد الأجواء التي سبقت بيان الدعوة للمفاوضات، حيث فشل المفاوضات يفتح الباب للميدان، ويحرّر إيران وحزب الله من عبء الانتظار لإفساح المجال أمام فرصة ولو وهمية، لكن الناس تنتظر منها النجاح في مسار تفاوضي يأملون منه خيراً، وكان الخطأ القاتل الذي ارتكبه بلينكن، لكن رئيسه لم يكن أشدّ فطنة منه، فوقع في الخطأ نفسه عندما قال إن حماس انقلبت على موافقتها، وقيامه كما وزيره بتحميلها مسؤولية الفشل، قبل أن يستدرك هو وبلينكن، إن إنعاش المفاوضات هو المطلوب لبقائها تؤدّي الوظيفة المطلوبة للتشويش على حق الرد لكل من إيران وحزب الله، لكن الاستدراك جاء أعرجَ، فتلعثم بلينكن ونابت عنه تسريبات باسم مسؤول أميركي تقول إن بلينكن منزعج من كلام نتنياهو عن شروط متشدّدة وتعميمه نبأ موافقة بلينكن عليها، وجاء اتصال بايدن بنتنياهو لإيجاد ثغرة تتيح استئناف المسعى التفاوضي، وتتيح التراجع الأميركي خطوة إلى الوراء عن مطالب نتنياهو لشراء المزيد من الوقت، لكن المناورة باتت مكشوفة كثيراً وتصعب تغطيتها بالغبار.