في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول الجاري قد تحمل قاعة الأمم المتحدة في نيويورك مشهداً غير مألوف: سوريا والكيان الاسرائيلي على طاولة واحدة لتوقيع اتفاق أمني برعاية أميركية. خطوة تثير الدهشة وتكشف عن الحاجة إلى هدنة موقتة أكثر مما توحي بسلام دائم، فاللحظة شديدة التعقيد إقليمياً وداخلياً، وما يُطرح ليس معاهدة كبرى بل ترتيب هش يسعى كل طرف إلى استثماره بطريقته.

في واشنطن، تبدو الرغبة واضحة في تسجيل إنجاز سريع يُعرض على هامش اجتماعات الجمعية العامة.

المبعوث الأميركي توم براك، الذي أثارت تصريحاته حول سايكس–بيكو جدلًا واسعاً، يسعى إلى مكسب ملموس كمؤشر إلى قدرة بلاده على إدارة الملفات الساخنة في لحظة انتخابية حساسة.

“إسرائيل” من جهتها تتعامل مع الاتفاق ببراغماتية شديدة. ورغم انتقادها العلني للرئيس أحمد الشرع والتشكيك في متانة حكومته، فإنها ترى في التهدئة على الجبهة الشمالية فرصة تكتيكية تمنحها فسحة لإعادة ترتيب أولوياتها في غزة وإيران والضفة الغربية، وتخفف من الاحتكاك المباشر مع إيران و”حزب الله” جنوباً، دون أن تتخلى عن حق الضرب متى رأت تهديداً، كما تؤكده عملياتها الأخيرة في جبل المانع والكسوة.

تلتقي هذه الدوافع عند لحظة سياسية فارقة، إذ تسعى واشنطن إلى إنجاز ديبلوماسي، وتبحث إسرائيل عن نافذة تهدئة، فيما تحاول دمشق اقتناص شرعية دولية.

طبيعة الترتيبات المقترحة تذكّر باتفاق فك الاشتباك عام 1974 أكثر من كونها معاهدة سلام كتلك التي وُقعت مع مصر أو الأردن. فالمقترح يشمل مناطق مراقبة بإشراف أممي، واستخدام وسائل كالطائرات المسيّرة والرادارات والمراقبة الكهروبصرية، إضافة إلى لجان ميدانية لمعالجة الحوادث وآلية تصعيد تدريجي لاحتواء التوتر قبل تحوّله إلى مواجهة شاملة.

جوهر التفاهم يكمن في الامتيازات الممنوحة للكيان، إذ تبقى القيود المفروضة عليها شكلية أكثر من كونها ملزمة، ما يجعلها نقطة هشاشة قد تتحول إلى شرارة أولى عند أي اختبار ميداني.

لكن خلف هذه الصورة، تنتصب حقول ألغام سياسية وأمنية.

داخلياً، قد ترى جماعات متشددة في الاتفاق تفريطاً بالسيادة، بينما ينقسم الرأي العام بين متفائل بفرصة تهدئة ورافض لأي تفاهم مع “إسرائيل”.

وفي السويداء، يتصاعد القلق من أن يشكل الاتفاق غطاءً لتمدد نفوذ دمشق على حساب الضمانات المحلية أو مدخلاً لسيناريو “كانتون درزي” تحت حماية “إسرائيلية”.

إقليمياً، تراقب إيران و”حزب الله” بقلق احتمال تثبيت استبعادهما من الجنوب، فيما تخشى روسيا تراجع موقعها إذا انتقلت إدارة الملف إلى واشنطن والأمم المتحدة.

الأردن وتركيا يترقبان انعكاسات مباشرة على ملف التهريب عبر الحدود، في المخدرات والأسلحة وضبط اقتصاديات الحرب التي تغذي شبكات الميليشيات.

دولياً، تبحث الأمم المتحدة توسيع تفويض قوات الفصل أو إنشاء آلية تحقق إضافية، وربما إدماج مراقبين في نقاط حساسة. لكن التحدي الأكبر يكمن في التعامل مع الجهات القادرة على إفشال الترتيبات: فصائل غير منضبطة، وميليشيات مدعومة خارجياً، وأطراف إقليمية تخشى إعادة رسم موازين القوى. تجارب لبنان وغزة أثبتت أن طرفاً واحداً قادرٌ على تقويض أشهر من التفاهمات، ما يستدعي أدوات ردع مرنة وآليات استيعاب أو تحييد وربما حوافز غير معلنة.

المستقبل مفتوح على ثلاثة مسارات: تهدئة مرحلية برعاية أميركية، تصعيد جديد إذا شعرت “إسرائيل” أن الاتفاق يقيّد حركتها أو إذا تحركت جماعات متشددة لإفشاله، ومسار تدريجي نحو صفقة أعمق تُرفق بحوافز اقتصادية ومشاريع إعادة إعمار. تحقق أي منها يظل مرهوناً بمؤشرات ميدانية، أبرزها وتيرة الغارات الإسرائيلية، وحجم التهريب، ونشاط الطائرات المسيّرة، والخطاب السياسي المتبادل.

في النهاية، لا يبدو الاتفاق تحولاً استراتيجياً. إنه ترتيب هش يُدار أكثر مما يُوقّع، يمنح الأطراف مكاسب موقتة دون ضمانات طويلة الأمد. وقد يُستثمر هذا الوقت في تفاهمات أعمق إذا تهيأت الظروف، أو يتحول إلى فسحة لاندلاع جولات أعنف من المواجهة.

النهار