
بدأ التقسيم الفعلي للوطن العربي، وتحديداً المشرق العربي،متمثلاً ببلاد الشام والعراق، خلال فترة الاحتلال العثماني من خلال التقسيمات العثمانية ومن خلال ضعف البنية التحتية طول فترة حكمهم التي تميزت بإهمال الأراضي العربية بشكل كامل حتى وصل الأمر بالناس في سورية الكبرى الخوف من الانتقال من مدينة إلى أخرى بسبب قطاع الطرق وسوء تلك الطرق إن وجدت.
مربط الفرس في ذكر دور الدولة العثمانية هنا هو أنها تسببت في عدم وجود دولة عربية مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي الكبير في بلاد الشام كمثال، أي أن الاحتلال العثماني مهد الطريق لهذا التقسيم بتركه الأراضي العربية بعد خروجه منها في أسوأ أحوالها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، فنرى أن أغلب المواطنين العرب خارج المدن المركزية لا يملكون سجلاًمدنياً، وكثيرٌ منهم لم يكن يملك صك ملكية لأرضه وأغلبهم لا يعرف يوم ميلاده بسبب انتشار الجهل والفقر وعدم وجود سلطة مدنية…إلخ. وهذا ينطبق بشكل كبير على المدن العربية فقط تحت الاحتلال العثماني، أي أنها كانت سياسة مقصودة مع سابق الإصرار والترصد.
بعيداً عن التقسيم العثماني للولايات العربية واختلافه من فترة إلى أخرى، فقد كانت الأراضي العربية التاريخية في أغلبها تقع تحت التقسيم الإداري العربي لهذه الولايات وأهمها ولايات الموصل وحلب وبيروت وبغداد ودمشق في بلاد الشام والعراق، ورغم اكتساح العنصر العربي لهذه الأراضي قبل وأثناء وبعد الاحتلال العثماني إلا أن الكثير من هذه الأراضي تمت سرقتها بشكل علني من قبل تركيا إثر اتفاقيات مختلفة، بداية بسايكس وبيكو مروراً باتفاقيات سيفر ولوزان في عشرينيات القرن الماضي.
خسرت بلاد الشام الممثلة بسورية الكبرى “سورية ولبنان والأردن وفلسطين وأجزاء من سيناء” أغلب هذه الأراضي التاريخية التي ملكها العرب منذ آلاف السنيين، وهي أقاليم الإسكندرون وكيليكيا والجزيرة العليا وأجزاء من الجزيرة الفراتية وجبل الأكراد. هذه الأقاليم تشمل مدن أنطاكيا وإسكندرون ومرعش وعينتاب وأورفهوماردين ونصيبين وشمال الخابور ولواء ديار بكر وأرسوز وبعض القرى الحدودية وغيرها.
تمثل هذه الخسائر أكبر خسائر في الجغرافيا والسكان في تاريخ الوطن العربي الحديث، بعيداً عن الخسائر الاستراتيجية كالموانئ والسواحل والمقدرات الاقتصادية المختلفة، وعدة ملايين من السكان العرب الذين تم تتريك الكثير منهم بالقوة خلال القرن الفائت. تكمن الخسارة الحقيقية في إضعاف الجمهورية العربية السورية تاريخياً فقد خسرت خط الدفاع الأول، أو كما سمي خلال فترات الحكم العربي الإسلامي بالثغور، فقد كان لهذه الخسارة نتائج مرة على سورية قيادةً وشعباً أهمها هو أنها أصحبت خاصرة رخوة للجغرافيا العربية من الشمال بسبب الأطماع التركية التي لم تنتهِ بل راحت تكبر يوماً بعد يوم.
من الواضح أن تسمية سورية الكبرى تحمل الكثير من الخلل الآن وخصوصاً مع خسارة كل هذه الأراضي. ففي الحقيقة تمثل الأراضي التي سُرقت من قبل الأتراك عبر تواطؤ غربي جزءاً أكبر بكثير من مناطق جنوب سورية، مثلاً “فلسطين والأردن”. لذلك، يجب إعادة التذكير دوماً بهذه الأراضي العربية ليس ترفاً أو تعصباً قومياً بل على العكس تماماً لأنها حاجة استراتيجية لكل مواطن عربي يحتمل التفكير بالمستقبل العربي، فالسكوت عن سرقة هذه الأراضي أوصلنا إلى خسارة الحدود الشمالية مع تركيا الآن وأجزاء من حلب وربما الجزيرة الفراتية لصالح مشروع انفصالي كردي خائن.
من الواضح أن الاتفاقات والتفاهمات الغربية التركية والصهيونية تسير وفق مخطط تفتيت سورية إلى الأبد من خلال تقاسم النفوذ وقريباً الجغرافيا السورية بين الترك والصهاينة، إلا أن الخطورة الأكبر في هذه التفاهمات، أي المؤامرات، تحدث أمام عيون حكام سورية الجدد بل ولبنان أيضاً. فهي بما يعكس الواقع أصبحت اتفاقيات موافق عليها سورياً، وهذا طبيعي بالنظر إلى تاريخ الحكام الجدد في سورية بني أمية، كما يعتقدون. لكن الغريب هو عدم وجود ردة فعل نخبوية أو شعبية من قبل الشعب العربي السوري، فحقيقةً ما يحدث الآن ربما سيتسبب في خسارة سورية كلها إلى الأبد وتحولها إلى وكر دعارة ومناطق حرة يباع فيها الإنسان بثمن بخس ويشترى بثمن أبخس!
يتواصل قضم الأراضي العربية السورية يوماً بعد يوم تمهيداً للتقسيم بغض النظر عن شكله، فهناك الكثير من المخططات الجاهزة، والتي تم ربطها بالتاريخ والسكان، بل هناك هويات فرعية جاهزة لهم في كل بقعة سورية ولبنانية، بل وأردنية وعراقية وفلسطينية. نعم، فالهويات المحلية الآن تباع في سوق الكتاب لمن يدفع أكثر.
هذه الهويات في أغلبها هويات مزيفة ومتخيلة صنعت بدقة في مختبرات وجامعات الغرب، وتم تعزيزها تاريخياً وسياسياً منذ أكثر من مائة عام، وبالتالي تكمن الخطورة الآن في قناعة بعض المواطنين العرب بشكل حقيقي، وفي بعض الأحيان واعٍ سياسياً،بأن هذه الهوية تشكل قارب النجاة له ولأمثاله، بالتالي سيقاتل دفاعاً عن هذه الهوية المتخيلة إلى جانب الغرب أو تركيا أو حتى الكيان المختلق كما هي هويته الآشورية، أو الدرزية أو المسيحية أو الآرامية أو البدوية…. إلخ.
ربما يظن البعض أن هذه الهويات أساسها طائفي، كالدروز مثلاً، أو طائفي وتاريخي “عرقي”، كالآشوريين والآراميين،وحديثاً الأنباط. هناك الهوية اللبنانية أيضاً التي تم تعزيزها بالروايات والسرديات التاريخية، ومن ثم الطائفية، بحيث تحولت إلى هوية وطنية بالرغم من أنها هوية فرعية تقع تحت الهوية العربية الأعم والأشمل، وإن لم تعجبك الهوية العربية، فالهوية السورية الأكبر والأشمل، ليس فقط للبناني بل للفلسطيني والأردني، فعندما نقوم بتحرير فلسطين ستذهب هذه الهويات مهب الريح عزيزي القارئ بغض النظر عن الكيفية، إلا إنها هويات وظيفية قاتلة للجماعة والوطن الكبير، فهي قبل أن تقتل لبنان مثلاً تقتل سورية أيضاً.
ربما لا نجد هوية قومية في الوطن العربي إلا ولها أساسٌتاريخيٌ في الماضي من خلال كتب علم الآثار والتاريخ، وبالتالي يسهل تأصيل أصول تلك الطائفة أو مجموعة بدو معينة مثلاً، وفي حال أردنا عمل مقارنة بين هذه التباينات الثقافية والاجتماعية في الوطن العربي وأوروبا مثلاً لوجدنا دولة بحجم فرنسا تحمل الكثيرمن الفروقات بل والاختلافات أكثر بكثير من الاختلافات التي يتحدثون عنها في سورية مثلاً، وإن عدنا للخلف 150 عاماً لما رأينا الكثير من هذه الهويات والجماعات الحاملة لها والتي تفتخر بها بل وتحتفل بأعياد خيالية لم يكن لها وجود قبل قدوم مستشرقي الغرب، وأكبر مثال على ذلك من يسمون أنفسهم آشوريين الذين، بالمناسبة، لا يتحدثون الآشورية بأي شكل من الأشكال. فاللغة الآشورية كلغة انقرضت ولا يمكن لأحد معرفة كيفية نطقها، فهم يتحدثون السريانية الممزوجة بالكثير من الكلمات العربية والكردية وربما الفارسية.
ليس فقط هؤلاء المذكورون أعلاه، بل الدروز العرب، أو لنقل جزء كبير منهم يتماهى بهويته التي في الحقيقة لا يمكن أن تقوم لهاقائمة من غير وجود سورية موحدة أقلها بحدود سايكس وبيكو، فهم عبارة عن عرب أقحاح لا يختلفون عن العربي المسيحي سوى بالدين فقط لا غير، وما دفعهم تاريخياً للمقاومة أو الخيانة عوامل وأسباب خارجية كالاحتلال الفرنسي، ومن ثم الاجتياح الصهيوني للبنان، ومن ثم الحرب على سورية خلال العقد الأخير.
التقاطع الأهم في كل ما ذكر عن هذه الهويات هو أنها جميعاً تظهر وتتعزز في ظل غياب أو ضعف الدولة ووجود تدخلات خارجية عنيفة أم سلمية. ففي الحالة السورية، بدأ الأكراد مثلاً في الحراك خلال أواخر النصف الثاني من القرن العشرين وذلك بسبب تدخلات خارجية، ومن ثم بسبب التدخلات الأمريكية بعد غزو العراق، وتم تعزيز وتسليح هذا الحراك في بداية الحرب على سورية حديثاً ومن ثم رأينا الحراك السني في سورية، نعم السني وتحديداً في الشمال وصولاً إلى حماة وريف دمشق ودرعا معززاً بالمال التركي والقطري والصهيوني، وبعشرات الآلاف من المسلحين الأجانب والعرب إضافةً إلى أغلبية سورية مرتزقة أو غسل دماغها تكفيرياً.
إذاً، لا يمكن ربط هذه الهويات بأرض تاريخية سوى من خلال الهوية الأساس، وهي الهوية العربية ليس فقط في سورية، بل في كل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ففي فلسطين لا يوجد للأرض سوى هوية عربية صرفة لا مسيحية ولا إسلامية. فالعرب كانوا قبل مجيء هذه الأديان وبقوا من بعدها، ليس فقط لأن هذه الأرض تتكلم العربية بل بسبب الحقائق المادية التاريخية في فلسطين وما حولها. لذلك، لا يمكن فك الارتباط بين الهوية وكل ما له علاقة بها بحسب الواقع أو الماضي أو الظرف الموضوعي فموضوع الهوية أوضح من أن يتم تركيب هوية على مكان معها وربطها بشكل اعتباطي بهذا المكان، فالهوية العربية تحمل أسساً مادية تاريخية ومعنوية ومصلحية أساساً لكل مواطن عربي. هذا الطرح ينطلق من وجود مصلحة عربية تاريخية في الوحدة القومية والتي من غيرها لا يمكن صد الأطماع الكونية في هذه الأرض وخيراتها وموقعها، من غير رؤى وممارسة وحدوية ستضيع المدن العربية واحدة تلو الأخرى.