لعل أفضل صيغةٍ توصلت إليها السلطتان اللبنانية والسورية لتنظيم العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين لبنان وسورية، لما فيه مصلحة البلدين والشعبين، هي معاهدة “الأخوة والتعاون والتنسيق” الموقعة بين الجانبين اللبناني والسوري، في أيار 1991.
هذا بإقرارٍ من مختلف الأفرقاء اللبنانيين الحلفاء والخصوم للسلطة السورية السابقة بقيادة الرئيس بشار الأسد في آنٍ معًا. ففي عهد الرئيس ميشال سليمان، وخلال تولي الرئيس سعد الحريري حكومته الأولى، أوفدت الحكومة اللبنانية وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية وقتذاك جان أوغاسبيان إلى دمشق، في 2010، على رأس وفدٍ من المديرين العامين المعنيين بالاتفاقيات اللبنانية – السورية، كالمدير العام للجمارك، ووزارة العدل، على سبيل المثال، لإعادة النظر بالمعاهدة المذكورة، حيث التقى وفدًا سوريًا برئاسة رئيس هيئة تخطيط الدولة عامر لطفي وقتذاك.
وبإيجاز، أفضى اللقاء إلى إنجاز ما يقرب من تسعة اتفاقات ثنائية، وتسع مذكرات تفاهمٍ بين لبنان وسورية، في صيغةٍ جديدةٍ راعت شروط تحسين متطلبات كلّ من الطرفين، كذلك إلى وضع 14 اتفاقًا آخر برسم المناقشة النهائية، كانت قد نوقشت على نحو عابر في اجتماعٍ سابقٍ.
بعدها، عُقدت “هيئة المتابعة والتنسيق” برئاسة رئيسي الوزراء السوري محمد ناجي عطري واللبناني سعد الحريري، الذي زار دمشق في تموز 2010، على رأس وفد وزاري كبير، مؤلف من 13 وزيرًا، يمثلون مختلف المكونات اللبنانية الممثلين في مجلس النواب وقتذاك، بما في ذلك “القوات اللبنانية”، التي مثلها وزيرا العدل إبراهيم نجار والثقافة سليم وردة.
وبإيجاز أيضًا، وقّع كلّ من لبنان وسورية سلسلة من الاتفاقات جلّها ذو بعدٍ اقتصاديٍ وقتذاك. ووفقًا للأصول القانونية، أحيلت إلى المجلس النيابي لإبرامها، كي تسلك طريقها القانوني، وتصبح سارية المفعول، غير أن الأجواء لم تعد مؤاتية، بعد استقالة حكومة الحريري، في كانون الثاني 2011، ثمّ بدء الحرب على سورية، في منتصف آذار من العام عينه، ووسط هذه الأجواء غير المناسبة، لم يطرح رئيس مجلس النواب نبيه بري، على البرلمان، “اتفاقيات الحريري – عطري”، للتصويت عليها، لإبرامها، ووضعها في إطارها القانوني، على اعتبار أن الظروف حالت دون ذلك، وبقيت معلقةً حتّى الآن في أدراج البرلمان.
لا ريب أن الظروف السياسية في الحقبة المذكورة آنفًا هي التي حالت دون إبرام “اتفاقات الحريري – عطري”، ولكن من دون أدنى شك كانت تحظى بمباركة غالبية الأفرقاء اللبنانيين الممثلين في البرلمان، على اعتبار أن الوفد الوزاري الذي رافق الحريري إلى العاصمة السورية خلال توقيع الاتفاقات المذكورة آنفًا، يمثل مختلف المكونات اللبنانية الممثلة في مجلس النواب.
بالانتقال إلى المرحلة الراهنة، فالتطور الأبرز على خط علاقة بيروت – دمشق، تمثل بزيارة الوفد التقني السوري إلى لبنان، التي أحيطت بتكتمٍ شديدٍ.
فبعد الإعلان المفاجئ عن تأجيل الزيارة الأسبوع الفائت، جاء في الأيام الفائتة الإعلان مفاجئًا عن لقاء نائب رئيس الحكومة طارق متري بالوفد السوري، والاتفاق على تشكيل لجانٍ قضائيةٍ وأمنيةٍ، لمتابعة الملفات العالقة بين البلدين.
يذكر أنها الزيارة الأولى لوفدٍ سوريٍ يمثل “سلطة أبي محمد الجولاني” للبحث في “العلاقات الثنائية”، في بيروت.
وكان “همّه الأساسي (أي الوفد) هو مناقشة ملف الموقوفين بجرائم الإرهاب، على ما تؤكد معلومات موثوقة، كشفت أنه “جرى الاتفاق على تشكيل لجنتين، واحدة قضائيّة لمتابعة ملفّ الموقوفين، وأخرى لترسيم الحدود وذلك خلال أسبوعين”.
وذكرت معلومات صحافية أن “دمشق تريد تعديل كلّ الاتفاقات مع لبنان”، أي إلغاء “معاهدة الأخوة والتنسيق”، بعد وصول الجولاني إلى “السلطة”، رغم نيل هذه المعاهدة تأييدًا واسعًا من الحلفاء اللبنانيين “للسلطة السورية الجديدة”، بحسب ما ذكر آنفًا.
وفي هذا الصدد، يؤكد مرجع سياسي سوري أن “من البديهي أن إيجاد الحل الملائم لقضيتيالموقوفين الإسلاميين في السجون اللبنانية، وضبط الحدود المشتركة اللبنانية – السورية، لن يكون من خلال معاهدة الأخوة، والمجلس الأعلى اللبناني السوري المنبثق عنها، نظرًا لحساسية هاتين القضيتين، وبعدهما السياسي الإقليمي”.
وفي هذا السياق، يوضح خبير في القانون الدستوري أن “معاهدة الأخوة لا تزال قائمة وأن إلغاءها يتم إما من خلال تحقق شروط الإلغاء المنصوص عنها في المعاهدة عينها، أو تحقق بند من بنود الإلغاء، كأن يكون مذكورًا فيها، أنه في حالة معيّنة تلغى هذه المعاهدة، أو في حال كانت تنص على بندٍ يعطي الحق لكل من فريقي المعاهدة الخروج منها، إذا تحقق أحد بنودها، وإما إذا تم الاتفاق بين طرفيها، على إلغائها، وفقًا للأصول القانونية، أي بالطريقة نفسها، التي اعتمدت عند التوقيع”.
وفي السياق عينه، تعتبر مصادر في المعارضة السورية للنظام السابق والراهن، أن “المطالبة السورية الأخيرة باستعادة الموقوفين في السجون اللبنانية، ومعظمهم متهمون في قضايا إرهاب مرتبطة بالإرهاب، ليست تفصيلًا إجرائيا أو مسألة إنسانية عابرة، بل مفتاح لفهم هوية الدولة السورية الجديدة”.
وتلفت إلى أن “دمشق تجعل من هؤلاء المعتقلين اختبارًا وعنوانًا لتحركها يعكس ترابطًا عميقًا بين الحالة التكفيرية التي وسمت السنوات الماضية، وبين السياسة الرسمية التي تسعى اليوم إلى إعادة هندسة المشهد الديني-السياسي داخل البلاد، وهذا الربط يكشف أن الدولة الناشئة لا تعيد تعريف سيادتها فحسب، بل تعيد أيضًا صياغة علاقتها بالتكفيريين”، تختم المصادر المعارضة.