تحدثت المصادر الغربية منذ شهرين تقريباً، عن خطة روسية لمهاجمة مقاطعة سومي الأوكرانية، وأن روسيا قد تسعى إلى الالتفاف على مدينة خاركوف، وتقطع طرق الإمداد على القوات الأوكرانية في تلك المنطقة.

نقل الأوكران عدداً من وحداتهم إلى تلك المنطقة، وبنوا بعض المواقع الدفاعية، لكنهم ركزوا بدايةً على وقف تقدم القوات الروسية المهاجمة على جبهة خاركوف، ونجحوا في وقف التقدم الروسي هناك، حتى أنهم استعادوا قسماً كبيراً من الاراضي التي احتلها الروس، ومنها في شمال مدينة فوفتشانسك، التي تبعد مسافة لا تزيد عن خمس كيلومترات عن الحدود الروسية الاوكرانية فقط.

من الواضح أن الجيش الروسي لم يتوقع أن تغامر أوكرانيا بمهاجمة الأراضي الروسية، ولهذا السبب ترك منطقة شاسعة على الحدود، خاصة في منطقة كورسك، دون أي دفاعات حقيقية، وتحت حماية قوات حرس حدود ضعيفة نسبياً، ولا تملك وسائل قتال ثقيلة وكافية.

تمتد الحدود الروسية مع أوكرانيا إلى أكثر من 1100 كلم، ويعتمد الجيش الروسي مبدأ الهرمية الثلاثية، بحيث تتألف السرية من ثلاث فصائل، والكتيبة من ثلاث سرايا،وهكذا صعوداً في اللواء والفرقة والفيلق، ويمكن تشكيل وحدات تكتية كبرى، تضمّ عدة وحدات مشتركة، من مشاة، ومدرعات، ومدفعية، وهندسة، وصواريخ مضادة للدروع، ومضاد للطائرات وغير ذلك.

وفقاً للمعادلات التكتية الروسية في الدفاع، تدافع السرية عن جبهة بعرض بين 500 و 1500 كلم، وتصل جبهة الكتيبة إلى 5 كلم، وجبهة اللواء بين 10 و 15 كلم، وذلك بحسب طبيعة الأرض، ونوعية الاسلحة والعتاد الموجود لدى الوحدات.

تحتاج روسيا وفق هذه المعادلات إلى حوالي 30 فرقة، لتنظيم دفاع متين عن كامل حدودها مع أوكرانيا، أي ما يقارب 600 الف جندي, إذا حسبنا وحدات الخدمات اللوجيستية اللازمة.

من الواضح أن الأوكران نجحوا في خداع الروس على جبهة كورسك، واستغلوا ضعف الدفاعات الروسية، واندفعوا بسرعة، وتوزعت القوات داخل القرى، ووصلوا إلى عمق حوالي 35 كلم ،ويقاتلون الآن على جبهة تفوق 60 كلم نحو الشرق والشمال والغرب.

نفذ الأوكران هجومهم بدايةً، بحوالي الف جندي، ثم قاموا باستغلال النجاح الذي حققته الوحدات الأمامية، ودفعوا بمزيد من القوات، حتى تجاوز العدد الآن أكثر من ستة ألوية (غير مكتملة العديد)، لكنها تعتمد مبدأ المرونة، وقتال الكتائب شبه المستقلة.

من وجهة نظر عسكرية لا يمكن وصف الهجوم الأوكراني بأنه عمل هجومي تقليدي، لأن الوحدات المتقدمة تنتشر بشكل كبير، وغير منظم، وليس على اتجاه هجوم رئيسي واحد، ولكن وفق استراتيجية ما يُسمى بتفتح الزهرة (أي المهاجمة من المركز بعدة اتجاهات).

وتحاول القوات الأوكرانية التركيز على تشتيت جهد القوات الروسية، لكنها في نفس الوقت انتشرت بشكل واسع، وباتت عاجزة عن متابعة الهجوم الكبير، او بناء خطوط دفاع متينة، ولذلك نرى أن العمليات أصبحت أشبه بعمليات كر وفر يومي، متبادل بين القوات الروسية والأوكرانية، وهجمات محدودة بين القرى، وذلك لأن عديد القوات المُشترِكة في القتال حتى الآن، من كلا الطرفين، هو أقل من اللازم لتنظيم هجوم أو دفاع مُنظّم.

يصف بعض المحللين الخطوة الأوكرانية بالشجاعة، ويصفها البعض الآخر بالمتهورة والانتحارية، وتحاول وسائل إعلام غربية وضعها في اطار تفوّق التكتيك الغربي على التكتيك الروسي، أو اعطاء أفضلية للأسلحة والمدرعات الغربية على الأسلحة الروسية.

هذا الاستثمار الإعلامي للعملية هو طبيعي من قبل الدعاية الغربية، لكن لا صحة اطلاقاً لهذه المعلومات، فالاسلحة والتكتيكات التي تستخدمها القوات الأوكرانية في هجوم كورسك، هي نفس الأسلحة والتكتيكات التي تستخدمها على جبهة دونيتسك، وتعجز عن الصمود في تلك المنطقة أمام التفوق الروسي الذي ما زال يحقق مزيداً من التقدم كل يوم، فيما تتراجع القوات الاوكرانية، تاركةً خلفها عدداً كبيراً من الأسلحة والآليات الغربية المدمرة.

لا شك أن روسيا تملك قدرات عسكرية كبيرة، وهي قادرة على سحق القوات الأوكرانية المهاجمة، ولكنها ما زالت تتعامل مع الأمر ببطء شديد، وهذا ما يجعلها موضع انتقاد من عدد كبير من المحللين العسكريين والسياسيين.

النقطة المهمة هي أن الهجوم الأوكراني، لم ينجح في دفع الروس إلى نقل قواتهم من جبهة دونيتسك إلى كورسك، ولم يخفف من الضغط الروسي في تلك الجبهة.

وتبدو روسيا واثقة من قدرتها على طرد الأوكران من أراضيها، وتحاول جعل هذه القوات تتمدد داخل البر الروسي، واستنزافها، مع قطع خطوط امدادها بواسطة سلاح الجو، والتي هي في الأصل شحيحة، كما يقول الرئيس الأوكراني زيلينسكي.

وبالتالي فإن العملية الأوكرانية ستتحول مع الوقت، إلى مجرد مغامرة غير محسوبة، واستنزاف لم يكن ضرورياً لقواتها المنهكة، والتي تعاني من نقص كبير في العديد والعتاد والذخائر على مختلف الجبهات.

لو كانت أوكرانيًا تملك تفوقاً في العديد والعتاد على الجيش الروسي، لكان يمكن القول أن هذه العملية الهجومية باتجاه كورسك، هي عمل قتالي ذكي ومهم، لكن وفق المعطيات الحالية، فهي مجرد مغامرة غير محسوبة جيداً، ولن تحقق الاهداف المرجوة، وتُصّنف كتضحية بعدد كبير من الجنود، من أجل الاستثمار الاعلامي، وإرضاء نزوات بعض القادة العسكريين والسياسيين خاصة الداعمين لأوكرانيا في الغرب.

بالمختصر يمكن القول أن هذا الهجوم هو آخر محاولات بايدن وزيلنسكي للنيل من هيبة روسيا بوتين، لكنه لن يحقق أي هدف مهم، ولن يغيّر في مجرى الحرب، وسيبقى أشبه بفقاعة اعلامية بوسائل عسكرية، ستنطفئ قريباً دون آثر.

الخبير في أسلحة الدمار الشامل والقانون الدولي الجنرال أكرم كمال سريوي – لبنان