مقترحات ومبادرات التهدئة منذ بداية الطوفان إلى الآن
الذي يقرأ تاريخ الصراع العربي-“الإسرائيلي” يجد أنه كلما كانت تحقق أمتنا نصراً ما على هذا الكيان اللقيط، كان عهر السياسة يضيع هذا النصر بدلاً من استثماره. فلا ننسى ما انتهى الأمر إليه بعد حرب تشرين، التي رغم الانتصار فيها تُركت سوريا وحيدة، وراح السادات يهرول لاهثاً خلف كامب ديفيد. وحتى انتصار 2000 و 2006 لم يدع تلك الكومبرادورات العربية تكفّ عن الإذعان والعمالة للعدو من خلال التخفي خلف ثوب الموضوعية و الوسطية، رغم أن هذه الانتصارات كفيلة بجعلها تؤمن بنهج المقاومة الذي أثبت فعاليته في المنطقة، بل وفي العالم وفي كل زمان ومكان. لكن الله تعالى قال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( البقرة: 6 ) }
ومحور المقاومة قارئ جيد للتاريخ، ومخطط جيد أيضاً للحاضر والمستقبل، ولن يقع في أي فخ أو مؤامرة من قبل هذا الاحتلال وداعميه .
أولئك الذين رغم أنهم ليسوا في موقع عسكري أو استراتيجي يجعلهم يضعون شروطاً لاتفاقات التهدئة، إلا أنهم لا يكلون ولا يملون من المراوغة والخداع. إلا أن محور المقاومة – الذي فوض حماس بقبول الاتفاق الذي تراه مناسباً باسم كامل المحور – يقظ لهذا الاحتلال ولداعمة الإرهاب الأولى في العالم (أمريكا) .
وسنجد أن الاحتلال القذر لا يملك إلا ورقة واحدة للضغط على المقاومة، ألا وهي حياة المدنيين في غزة، جاعلاً من إراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ هدفاً استراتيجياً. ولأن محور المقاومة ينحدر من فكرة المقاومة التي هي فكرة دينية ووطنية وإنسانية ، وحياة وسلامة أهلنا في غزة بالنسبة له أولوية هذه المرحلة، تجده مهتماً بأي هدنة شريطة ألا تضيع تضحيات الشعب الفلسطيني أو تضحيات أي شعب من شعوب المنطقة، وألا تكون الهدنة أيضاً على حساب ما استشهد من أجله هؤلاء الذين هم أكرم منا جميعاً.
فقادة المحور لهم مرجعية هي الشهداء، ولن يخونوا دماء الشهداء، ومحور المقاومة عامة والمقاومة الفلسطينية خاصة، مستمرون في الدفاع عن أبناء شعبنا ضد أيقونة الإرهاب (الاحتلال الصهيوني وداعميه وأذنابه).
ومنذ بداية الطوفان المجيد يكاد لا يمر علينا أسبوع إلا ونسمع باقتراحات هدنة هنا أو مبادرات تهدئة هناك، كان مصيرها الفشل ولم تؤدّ إلى حل، وحتى وإن نجحت إحداها في بداية الطوفان وتم على إثرها تبادل عدد من أسرانا الأبطال، إلا إنها كانت لا ترسم طريقاً يقود إلى تهدئة تامة ووقف إطلاق نار شامل .
وسنجد دائماً الاحتلال المجرم خلف إفشال كل هذه المقترحات والمبادرات، حيث إنه ينصّب نفسه في مكان وموقف، يجعله يضع شروطاً، وهو غير مؤهل لذلك؛ لا عسكرياً ولا سياسياً ولا حتى اقتصادياً .
وسنوضح في هذا المقال ما ذكر أعلاه من خلال استعراض أبرز محادثات الهدنة منذ بداية الطوفان حتى تاريخ اليوم :
● كانت أولى جولات التفاهمات في شهر تشرين ثاني/نوفمبر 2023 وقد تمخض عنها هدنة إنسانية في قطاع غزة، شملت صفقة تبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، حيث أطلقت المقاومة سراح 50 أسيراً من أسرى الاحتلال مقابل 150 أسيراً وأسيرة من الفلسطينيين، ووقف إطلاق نار في قطاع غزة لمدة 4 أيام مع إدخال مساعدات إنسانية، وبقيت هذه الجولة الأولى التي تحققت وحيدة، فيما ذهبت باقي الجولات إلى طريق مسدود.
● في شهر آذار/مارس وقُبيل شهر رمضان المبارك عُقدت جولة مفاوضات غير مباشرة بين الاحتلال وحركة حماس برعاية مصرية وقطرية، من أجل التوصل إلى هدنة قبل دخول شهر رمضان المبارك، وقد أمضت الولايات المتحدة الأمريكية وقطر ومصر أسابيع في مسعى وساطة للتوصل لاتفاق تطلق حماس بموجبه سراح نحو أربعين أسيراً من أسرى العدو لديها، مقابل وقف إطلاق النار لمدة شهر، والإفراج عن عدد من السجناء الفلسطينيين، وتدفق المساعدات لمعالجة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة. وكانت حماس رفضت إطلاق سراح جميع أسرى الاحتلال الذين تحتجزهم، وتسليم رفات نحو ثلاثين آخرين، بسبب رفض الاحتلال الإسرائيلي وقف الغارات على قطاع غزة والانسحاب منه، ورفضه إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين.
●خلال شهر نيسان/أبريل الماضي، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مقترحاً لوقف إطلاق النار، وقد تم تقديم المقترح من قبل الوسيطين القطري والمصري لحركة حماس، وقد نص المقترح على عقد صفقة تبادل للأسرى وهدنة مدتها 6 أسابيع، ثم تفاصيل عودة النازحين الفلسطينيين من جنوب قطاع غزة إلى شماله، وقد أُفشل المقترح بسبب تعنت الاحتلال بإبقاء نقاط تفتيش لجيشه تتحكم بعودة النازحين من الجنوب إلى الشمال وهذا ما رفضته الحركة.
●لم يمضِ شهر على فشل جولة نيسان، حتى عادت الوساطات الدولية بمقترح جديد في شهر أيار/ مايو الماضي، وقد وافقت حماس عليه بشكلٍ مبدئي، وقد تضمن المقترح وقفاً لإطلاق النار وعقد صفقة تبادل شاملة، وانسحاب جيش الاحتلال من كافة مناطق قطاع غزة، وعودة النازحين. وبعد موافقة حماس على المقترح، جرى تنصل إسرائيلي من بعض البنود، وتلاعب الاحتلال بتفاصيل الاتفاق، وهو ما رفضته حماس فأُفشلت الجولة.
● وخلال شهر حزيران/يونيو الماضي قدّم الرئيس الأمريكي جو بايدن مقترحاً لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن أسرى الاحتلال في قطاع غزة. وقد أشارت الخارجية الأميركية في حينها إلى أن المقترح جرى تطويره بالتشاور مع قطر ومصر، فيما رفض رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو المقترح الأمريكي ووصفه بالغير دقيق، ورفض وقف حرب الإبادة على قطاع غزة وهو ما دعا له المقترح. وردت فصائل المقاومة الفلسطينية باتهام الولايات المتحدة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي بعدم الرغبة حقاً في إنهاء الحرب، والسعي عبر المفاوضات إلى كسب الوقت، على أمل أن يحقق نتنياهو أهدافه عبر القتال.
●أما في شهر تموز/ يوليو الماضي فقد تم تقديم ذات المقترح بشكلٍ تقريبي دون جدوى، وسط رفض جيش الاحتلال الانسحاب من محوري نتساريم وفيلادلفيا، وهو ما طالبت به المقاومة.
●و آخرها … مقترح جديد يوم أمس 14 آب/أغسطس، وأكدت حركة حماس أنها ستقوم بقراءة المقترح. فيما أكد القيادي في الحركة محمود مرداوي أن حماس لن تشارك بالتفاوض من أجل التفاوض فقط، بل من أجل الشعب الفلسطيني الذي سيحدد اليوم التالي للحرب. وأضاف أن المقترح الجديد وافقت عليه الأمم المتحدة.
وعندما نقرأ ما مرت به هذه المبادرات والاقتراحات – التي لولا صمود وبطولات المقاومة لم يكن العدو ليضطر لها أبداً – نجد كل ما أحاط بها من محاولاتٍ للخداع والمراوغة وشراء الوقت وتسجيل المواقف السياسية، و لتخدير المستوطنين الغاضبين الذين باتوا مقتنعين بعدم عودة أسراهم دون اتفاق.
وأحياناً تستخدم هذه الهدن كدعاية انتخابية للحزب الديمقراطي الذي يحاول غسل يديه الملطختين بدماء أهل غزة، للفوز على الجمهوري الذي لا يقل عنه إجراماً. والدليل على أنهم مراوغون مخادعون أن الولايات المتحدة لم تمارس أي وسيلة ضغط حقيقية لوقف إطلاق النار، ومستمرة بتزويد الكيان بالأسلحة التي كانت قيمة آخر شحناتها 20 مليار دولار .
والمحور ونتيجة التطورات والتصعيدات الأخيرة – والتي أبرزها الاعتداءات الإجرامية الصهيونية على اليمن واغتيال القائدين هنية وشكر – بات أكثر حرصاً مؤخراً، ولن يسمح بأن يخرج من هو مهزوم في الميدان منتصراً بالسياسة .
محمد الدجاني – فلسطين