تتجاوز الحرب الأميركية على حركة أنصار الله واليمن العناوين المعلنة بما فيها تخديم التحالف الأميركي مع كيان الاحتلال في لحظة حرجة بعد حرب الستة عشر شهراً، التي فشل خلالها كيان الاحتلال بسحق حركات المقاومة، رغم إلحاقه أضراراً كبيرة بها، كما تتجاوز ما يقوله الأميركيّون عن علاقة الحرب بمستقبل التفاوض الأميركيّ الإيرانيّ واحتمالات شنّ ضربات عسكريّة أميركيّة وإسرائيليّة على إيران، بحيث يبدو الصراع على البحر الأحمر عنواناً للحرب الأميركية الأشد أهمية في رسم الجغرافيا السياسية للعالم، في لحظة تاريخية لا يمكن إغفال اتصالها بالمراحل الأخيرة من رسم الخرائط، إذا أحسنّا قراءة معنى السعي الأميركيّ الحثيث لصياغة تفاهم مع روسيا لإنهاء حرب أوكرانيا وفقاً لمعادلات تتصل بالجغرافيا السياسية والاقتصادية والعسكرية لأوروبا.
– إذا نظرنا إلى الخريطة سوف نلحظ أن خطاً افتراضياً عبر البحر الأحمر يصل إلى مضيق الدردنيل والبوسفور والبحر الأسود يقسم العالم إلى قسمين كبيرين، واحد فيه آسيا وحدها، والثاني فيه أوروبا وأفريقيا وأميركا وأستراليا، وفيما تقع روسيا والصين والهند وإيران في قسم من العالم تتطلّع أميركا لقيادة القسم الثاني والتحكّم به، ولا يبدو ذلك ممكناً دون السيطرة على البحر الأحمر، وهو كما تكتب وزارة الدفاع الأميركية في تقاريرها السنوية لمفهوم الأمن القومي الأميركي، أنه الممر المائيّ الأهم في العالم، سواء لجهة حجم التجارة العالميّة التي تعبر هذا البحر أو حجم علاقته بشرايين الطاقة التي تربط أسواق العالم، فكيف بالنسبة لدولة قامت أصلاً على أنّها دولة حروب البحار تملك وحدها ما يعادل أضعاف ما يملك العالم من أساطيل كانت حتى سنوات مضت، كافية لحكم العالم.
– عندما كان قادة كيان الاحتلال ينظرون لفرضيات الحروب في المنطقة، كان يقع نظرهم على البحر الأحمر فيتذكّرون أهميّة باب المندب في حرب عام 1973، لكنهم كانوا يأملون بأمرين، الأول تحييد مصر والسعودية عن دور شبيه بحرب 1973، والثاني التطلع لمساهمة أميركية فعالة تحول دون تمكين أي حلفاء للمقاومة من استخدام البحر الأحمر، لكن لم يخطر ببال الأميركيين والإسرائيليين، أن يحدث ما حدث، فينجح اليمن في فرض إرادته عبر البحر الأحمر طيلة ستة عشر شهراً، وتعجز أمامه كل القوة الأميركية.
– ما تسعى واشنطن لفعله قبل أن يقفل باب الحرب في غزة، وقبل ترسيم الصيغة النهائية لأي اتفاق، هو محو آثار الحرب من البحر الأحمر وإعادة رسم معادلة جديدة فيه، واسترداد الكلمة الفصل فيه، ولذلك تبدو واشنطن بعنادها ورفع سقوف أهدافها حمقاء ومتهوّرة، مثلما تبدو “إسرائيل” في تعاملها مع المواجهة مع المقاومة في لبنان وغزة، لكنها كلها حروب وجودية، لا يجوز التسليم خلالها بمعادلات الخسارة قبل بذل كل الممكن لإعادة فرض الإرادة. والمشكلة التي تواجهها أميركا هي مشكلة “إسرائيل” ذاتها، وقوامها أن المزيد من القتل والتدمير عبر استخدام مستويات أعلى من فائض القوة النارية، لن ينجح بتغيير القواعد الاستراتيجية للحرب، ذلك أن البيئات الشعبية للمقاومة في لبنان وغزة واليمن متشابهة لجهة التماهي مع قياداتها بالتمسك بخيار المقاومة، وتنظر إلى التضحيات بصفتها ثمناً ضرورياً للكرامة، ووهم الرهان على دفعها لتخفيض سقوفها أو تخيّل إمكانية استسلامها تنفيه تجربة الحرب الطويلة بكل ما شهدته، خصوصاً في غزة وفي لبنان من قتل وتدمير، والقيادات مصمّمة على ثوابتها وواثقة من قدراتها، وتبدو مستعدّة لأسوأ الاحتمالات.
– ما تفعله واشنطن يبدو ضرورياً بمثل ما يبدو ما تفعله تل أبيب أيضاً، لكن التسليم بالفشل يبدو نهاية حتمية لكلتيهما. وهذا يعني دخول حركات المقاومة بالصمود والصبر والمثابرة على خط رسم الجغرافيا السياسية للعالم، انطلاقاً من المكانة الحيوية لمنطقة مثل غزة، ومثل جنوب لبنان، ولكن خصوصاً مثل البحر الأحمر.
ناصر قنديل