يتخذ جنرالات الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية قرار تحريك القطع الحربية الأمريكية إلى منطقتنا بسهولة كبرى، عندما يتعلق الأمر بمصير كيان الاحتلال في معركته أمام محور المقاومة. فخلال ما يزيد قليلا عن العشرة شهور، هذه هي المرة الثانية التي يتم اتخاذ هكذا قرار بسرعة قصوى وكأن تحريك كل هذه الأساطيل والطائرات النفاثة بل والجنود أيضاً بالشكل هذا هو أمر روتيني. وفي الوقت نفسه، يأتي البيان القطري-المصري-الأمريكي مفاجئاً بعد تحرك دبلوماسي لا يمكن وصفه إلا بالمكّوكي، يدعو لإنجاز صفقة تؤدي إلى وقف إطلاق النار كأولوية قصوى لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وتخفيف احتمالات التصعيد في المنطقة؛ نفس الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يقتل بقرار وذخيرة أمريكية بيدٍ صهيونية، ونفس المنطقة التي تُقصف عواصمها ويُغتال قادتها ويُستهدف المدنيون فيها كل يوم بالطائرات الأمريكية والصهيونية ظلماً وعدواناً! وإذا ما أضفنا مشهد استقبال مجرم الحرب نتنياهو في الكونغرس الأمريكي بدلاً من اعتقاله، المشهد الذي أثار حفيظة الأغلبية السياسية والشعبية على مستوى واسع في العالم، نصبح أمام سؤال بديهي: من يتحكم بمن؟ أمريكا أم “إسرائيل”؟
جاءت نشأة الكيان المحتل امتداداَ للسياسة الغربية الاستعمارية الإمبريالية بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وإذا ما تمت مقارنة الكلفة الاقتصادية لإنشاء “دولة” لعصابات متوحشة مارست كل أنواع القتل والتنكيل بسكان الأرض الأصليين من الفلسطينيين، لتخدم كقاعدة عسكرية متقدمة في منطقة لطالما اعتُبرت أنها قلب العالم وحلقة الوصل بين شرقه وغربه، وبين على سبيل المثال كلفة تشغيل حاملة طائرات بريطانية/أمريكية تبحر في مياه المتوسط وهي على أهبة الاستعداد للدفاع عن المصالح الغربية في جميع الأوقات، لوجدنا أن كلفة إنشاء “الدولة” أقل بكثير. هذا يجعل عملية زراعة الكيان الغاصب ليلعب دوره في وطننا العربي كقائد للمستعمر الغربي على هيئة “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” مجدياً مادياً، وخاصة إذا ما أخذنا أبعاد القرار كقرار اقتصادي بحت في عالم تنخره الرأسمالية.
وعلى ذكر الرأسمالية، لا بد من أن نذكر بالضرورة سيطرة ما يسمى باللوبي الصهيوني على أهم مفاصل الدولة الأمريكية وحتى الدول الأوروبية: ابتداءً من قطاع البنوك، إلى امبراطوريات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، شركات الأدوية الكبرى ومراكز الدراسات والأبحاث، وانتهاءً بمصانع وشركات الأسلحة والذخائر التي تمسك بأهم أعمدة السياسة الأمريكية وأكثرها حساسية. وبالمحصلة، نرى أن مرشحي الأحزاب باختلافهم، ومرشحي حكام الولايات، ومن بعدهم مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية يقسمون بالولاء للصهيونية كضمان لكسب سباق الانتخابات، مما يجعلهم رهينة للوبي الصهيوني، مدفوعين في حلقة مفرغة من الترغيب بالمال والسلطة والترهيب بالابتزاز وفضح المستور من تجاوزات قانونية وفضائح جنسية وجرائم اختلاس المال العام، ليقوموا بحماية المشروع الصهيوأمريكي وهو يمارس كل جرائمه على مدى عشرات السنين الماضية، وليس آخرها جرائم الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة.
وإذا ما أردنا معرفة حقيقة الأسباب التي تجعل الأمريكي يتحرك بهذه الرعونة بما يتعلق بالكيان المحتل، على الرغم من كل ما سيجره ذلك عليه من ويلات، سنرى أن “إسرائيل” ما هي إلا مرآة صادقة تعكس حقيقة الأنظمة الغربية وعلى رأسها النظام الأمريكي المبنية على أسس العنصرية وتفوق العرق الأبيض، وأسس استعمارية ترى أنه من حقها استغلال خيرات البلدان الأخرى لتمكين نفسها، على مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. كما أن الصهيونية، إن كانت المسيحية منها أو اليهودية والعلمانية حتى، المتجذرة في تفسيرات التلمود المشوهة عن التوراة، وقراءات الحاخامات الذين أعطوا لأنفسهم مكانة أعلى من مكانة الإله، تعطي للصهيوني الحق في الكذب والسرقة والقتل والاغتصاب وممارسة كل الرذائل والمحرمات على كل من هو غير يهودي، وبالتالي لن تكترث بقتل الآلاف بل مئات الآلاف من الناس لتحقيق الرؤيا التلمودية بالوطن الموعود على أرض فلسطين التاريخية. فهو بذلك يتقرب للرب الذي اختاره على العالمين منذ آلاف السنين. هذا التشابك والترابط والانصهار بين مفاهيم اليهودية والإسرائيلية والصهيونية، والذي أشار إليه أشهر المؤرخين الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته عن الموضوع، يجعل الفصل بين هذه المفاهيم والأهداف منها والمحرك وراءها شبه مستحيل. بالمحصلة نحن أمام حرب استعمارية إحلالية من جهة، وحرب دينية يترأسها المتطرفون الصهاينة الذين يقودون هذه المواجهة بلا قيود ولا ضوابط بالمطلق من جهة أخرى. ومن هنا نستنتج أن أمريكا وإسرائيل هما امتداد لبعضهما البعض. وأن دفاع أمريكا المستميت عن “إسرائيل” ما هو إلا دفاعها عن نفسها، لأن انهيار الكيان ينذر بانهيار المنظومة الاستعمارية ككل. ولأن الثورات تلد الثورات، سنرى أن دولاً أخرى ستستنسخ تجربة المحور لطرد المستعمر الغربي من أراضيها. وقد يترتب على هذا انهيار المنظومة الرأسمالية التي تحكم أمريكا والغرب قبضتهم بها على رقبة العالم أجمع، وهذا ما سيجعل الغرب برأس حربته الأمريكي يدافع حتى الموت عن كيان الاحتلال. وإن لم يكن كذلك، فكيف نفسر أنه وفي الأيام الأولى للطوفان المجيد، جاءت الوفود الغربية وجاء رؤساء الوزراء ورؤساء الدول بصفتهم الصهيونية وليس بصفتهم الرسمية؟ كيف ممكن أن نفسر الصمت الغربي الرسمي لكل ما يحدث والفيتو الأمريكي الذي لم يتوانى عن إطلاق يد الاحتلال بحرب إبادته ضد الفلسطينيين؟ “إسرائيل” تلطخ يديها بدماء أهل المنطقة تنفيذاً للأجندة الأمريكية والغربية نيابة عنهم، وكل الوقفات والتصفيق لمجرم الحرب نتنياهو تحت سقف الكونجرس ما هي إلا تجسيد للصورة البشعة والحقيقية لهذا العالم. أمريكا هي “إسرائيل” و”إسرائيل” هي أمريكا، وسقوط هذه المنظومة بات حتمياً في ظل لا أخلاقيته الصارخة. إلا أن هذا السقوط سيكون مدويّاً ومؤلماً لجميع الجهات المنخرطة في الصراع من قريب أو من بعيد. هذه هي دورة الحضارات وسنة الكون. وبين سقوط حضارة ونهوض أخرى، يكون زمن الوحوش. ولعلّنا اليوم نعيش زمن الوحوش هذا.
أسيل إبراهيم – الأردن