عندما نتصرف بمنطق أن ارتقاء القادة العظام يزيد من حجم المسؤولية على عاتق كلٍ منا، وأن كل يوم هو 7 أكتوبر من جديد، سنكون قد أخلصنا لأسماء نقدرها عالياً ونعدّها بوصلة.

وضع الجنرال الصيني صن تزو، قبل أكثر من 2500 عام، ما يعد حتى اليوم أقدم كتاب في علم الحرب،  بعنوان “فن الحرب” The Art of War.

ويتناول صن تزو في الفصل السابع من كتابه، فيما يتناوله، أهمية الأعلام والرايات في الجيوش، خلال زحفها أو إبان القتال.  ففي غبار المعركة وضجيجها، يقول تزو، لا تصل الكلمة المحكية إلى الأسماع بعيداً بما فيه الكفاية، ومن هنا ضرورة استخدام الطبول والصنوج، ولا تُرى الأشياء العادية في العيون بوضوحٍ كافٍ، ومن هنا ضرورة استخدام الرايات والأعلام.

يتابع صن تزو أن الصنوج والطبول، والرايات والأعلام، هي وسائل يمكن من خلالها تركيز أعين المقاتلين وآذانهم باتجاه نقطة واحدة محددة.  وينصح صن تزو قادة الجيوش: “في القتال الليلي، أكثِرْ من استخدام الإشارات النارية والطبول، وفي القتال نهاراً، استخدِمْ الأعلام واللافتات” لتوجيه جيشك نحو الوضعية القتالية التي تريدها.  

يذكر أن الألعاب النارية نمت من الاستخدام العسكري للإشارات النارية في الصين قبل أكثر من 2200 عام، وتَمثّلَ شكلها الأول بإلقاء أعواد قصب “البامبو” في النار، الأمر الذي يسبب انفجارها، نتيجة ارتفاع حرارة جيوب الهواء داخلها.

ويرى صن تزو في الفصل التاسع: إذا كانت هناك جلبة في معسكر العدو، فاعلم أن سلطة القيادة على جنودها ضعيفة، وإذا رأيت أعلام الجيش الآخر وراياته تتقلقل، فاعلم أن تمرداً على وشك أن يحدث في صفوفه.  وكان أشار في الفصل السابع: امتنع عن مهاجمة عدوٍ راياتُه منظمةٌ جيداً، وامتنع عن مهاجمة عدو تسير تشكيلاته بصورة هادئة وواثقة.

وكان أشار في الفصل الثاني: إذا غنمت 10 عربات قتالية أو أكثر، فاستبدل أعلام العدو وراياته عليها بأعلامك وراياتك، وضمّها لتشارك في القتال بين عرباتك.  كان ذلك قبل 25 قرناً، في مرحلة الجيل الأول من الحروب.

أما اليوم، في القرن الـ 21، في مرحلة الجيل الرابع من الحروب، التي يرى البعض أنها انتقلت إلى الجيل الخامس، فإن مسرح المعركة اختلف، وأدواتها، فاختلط المدني بالعسكري، والحقيقي بالافتراضي، والذكاء البشري بالاصطناعي، واختلفت بالتالي طبيعة الرايات والأعلام والإشارات النارية والطبول التي يجري استخدامها في المعركة لتتخذ أبعاداً رمزية.

ويمكن صياغة قانون تطور الحروب من مرحلة إلى أخرى، بصورةٍ عامة، بأن تطوير أدوات إنتاج قتل ودمار، أي أسلحة، أبعد وأبعد مدىً، راح يوسع تدريجياً الحيز المكاني لميدان المعركة جغرافياً حتى تجاوز الفضاء الحقيقي إلى الافتراضي، والغلاف الجوي للكرة الأرضية إلى الفضاء الخارجي.  

فمن السيف والرمح، إلى البندقية الأولى والمدفع البدائي، إلى البندقية الآلية ثم المدفع الرشاش والهاون والهاوتزر وراجمة الصواريخ، صار مدى الأسلحة أبعد وأبعد.  ومع دخول محرك الاحتراق الداخلي على “العربات العسكرية”، براً وبحراً وجواً، ليعطينا الدبابة والسفينة الحربية والطائرة النفاثة، باتت الجيوش تتحرك على مساحات أوسع بسرعةٍ أكبر، وكان يتبع ذلك بالضرورة تغير في تنظيمها وطرق إدارتها وهيكليتها، أي أن التغير في أدوات إنتاج الحرب جوهرياً تبعه تغيرٌ لازمٌ في شكلها ونمط إنتاجها.  

وبعد دخول الشريحة الإلكترونية على الأسلحة، وشبكة الإنترنت، وتطوير صواريخ عابرة للقارات وأقمار صناعية ترصد أدق تفاصيل الحواضن الاجتماعية للعدو، وهناك منذ نهاية عام 2018 نحو 320 قمراً صناعياً مسلحاً بالصواريخ، وأخرى مسلحة بأشعة الليزر منذ عام 2023، على الأقل، وبعد أن باتت الحروب السيبرانية شكلاً رئيساً من المعارك، لم تعد هناك حدود مكانية معرّفة جغرافياً لميادين القتال، وبات يمكن أن يندلع في أي “مكان”، في أي “وقت”، من دون إعلان رسمي.

يعني هذا أن المكونات غير العسكرية في الحرب ازدادت ثقلاً وأهمية، الأمر الذي يعادل القول تماماً إن كل ما هو مدني، من الاقتصاد إلى “المجتمع المدني” إلى الثقافة إلى الإعلام، وبالضرورة، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، بات يتخذ، بصورةٍ متزايدة، بعداً حربياً.

وفيما كانت تزداد وسائل إنتاج القتل والدمار فتكاً، راح يتعسكر المجتمع والدولة والاقتصاد والثقافة والإعلام ووسائل التواصل نتيجة إدراجها جميعاً في مفهومٍ معممٍ للأمن القومي أنتجه الجيل الرابع من الحروب من جهة، ومصلحة النخب الحاكمة في الغرب بالتذرع بذلك المفهوم للدفاع عن هيمنتها في وجه القوى الدولية والإقليمية الصاعدة وحركات التحرر في الجنوب العالمي، من جهةٍ أخرى.  

ومن هنا ديكتاتوريتها، التي باتت مكشوفة الآن، على وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، واستخدامها المكثف لسلاح العقوبات الاقتصادية، وتحويل المنظمات غير الحكومية إلى “مركبات قتالية” في ترسانتها، وتعمّد اختراق الثقافة بالتفاهة، والإعلام بالاستخبارات والأموال، وذلك عندما لا يجري استهداف الصحفيين والإعلاميين بالقتل مباشرة، كما في غزة، أو استهداف وسائل إعلام المقاومة بالقصف، كما في لبنان.

يطرح كل ذلك تساؤلاتٍ كبيرة عن معنى الديمقراطية والحرية والفضاء المفتوح في المنظومة الغربية،  وعن مدى مشروعيتها بناءً على المقاييس التي وضعتها لنفسها، والتي تزعم الدفاع عنها وشن الحروب من أجل فرضها عالمياً.

كما إنه يعيد طرح أهمية غرامشي والمفاهيم التي قدمها بشأن الهيمنة الثقافية، والحاجة إلى خوض حرب ثقافية لمقاومتها، وأهمية المثقف العضوي الذي تقع على كاهله(ا)، في هذا السياق، مهمة رص صفوف المهمشين المنحدرين من خلفيات متنوعة ومتباينة وكشف حقيقة منظومة الهيمنة أمامهم، وضرورة صهرهم في كتلة تاريخية تنهض بعبء مواجهة منظومة الهيمنة.

كتب غرامشي في مرحلة الجيل الثالث من الحروب، وكان لا بد لكتاباته من أن تعكس أجواءها، لكنّ المثقف العضوي في الحرب الثقافية التي تناولها لم يكن، من المنظور التاريخي، سوى حامل راية، ورافع علم، وضارب طبل أو صنج، أو مطلق إشارات نارية، لتوجيه جيوش المهمشين نحو نقطة محددة، تماماً كما في زمن صن تزو.

في زماننا، غدت الرايات والأعلام والطبول والصنوج تحتل أبعاداً أكبر بمقدار ما تغير شكل الحروب من المباشر إلى غير المباشر، ومن العسكري إلى المدني، ومن الحقيقي إلى الافتراضي، وبالعكس، وباتت تتخذ طابعاً رمزياً ومعنوياً، أكثر منه مادي مباشر، كما هي الحال في منظومة الاتصالات العسكرية التي تؤدي الغرض ذاته وظيفياً.  

الرموز المعنوية الكبيرة قد تكون قيادات، مثل السيد حسن نصرالله أو السيد هاشم صفي الدين، أو مثل القائد المجاهد يحيى السنوار، وعز الدين القسام، وعشرات غيرهم، تحظرها شركة “ميتا” في وسائل التواصل التي تسيطر عليها، بالذات لأنها رايات وأعلام وإشارات نارية ونداءات قادرة على حشد الملايين باتجاه نقطة محددة سياسياً، في ضجيج المعركة وغبارها، وما زالت كذلك.

والرموز المعنوية الكبيرة قد تكون مصطلحات، مثل “مقاومة” و”شهيد”، تشحننا بإيجابية، أو مصطلحات تشحننا بسلبية، مثل “صهيونية” و”احتلال”.  في الحالتين، فإن حظر تلك المصطلحات في وسائل التواصل، وأسماء القادة والشهداء المقاومين، والتنظيمات المقاوِمة وصورها وأعلامها، ينبع من فعاليتها في حشد الصفوف ورصها وتوجيها نحو نقاط محددة هي بالضرورة ضد توجهات الطرف الأميركي-الصهيوني، ولتذهب “حرية التعبير” إلى الجحيم…

سواءٌ تحدثنا عن رموز قيادية أو عن رموز اصطلاحية، فإن إسقاط تلك الرايات والأعلام وحظرها من الحوار العام يهدف إلى تشتيت الصفوف وترك رايات العدو وأعلامه، أي رموزه ومصطلحاته، ترفرف وحدها في الميدان، حتى نظن أنه المنتصر.  وكان صن تزو يكلف خيرة جنوده بحمل الراية خلال القتال، وكان إبقاء الراية مرفوعة، ومحاولة إسقاطها من طرف العدو، مهمة ميدانية راهنة دوماً.

كان السيد حسن إذا تحدث يصل الملايين محركاً أو مهدئاً أو موجهاً، وكان مجرد وجود القائد يحيى السنوار، إن ظهر أو لم يظهر في العلن، باعثاً على الثقة والاطمئنان بأن معركة غزة في أيدٍ أمينة، من وجهة نظرنا الجمعية.  

لذلك، كان لا بد للعدو أن يستهدفهما، وغيرهما من القيادات، كرايتين خفاقتين في سماء عقولنا وقلوبنا، تعبئان الملايين وترصان الصفوف.  وكانا، كغيرهما من القادة الشهداء في تاريخنا، يعرفان جيداً بأنهما مشروعا استشهاد، وكانا يتصرفان على هذا الأساس، ولعل ذلك أضاف حباً إلى حبٍ لهما لدى الملايين. 

العبرة من هذا الكلام أن العدو استهدف هاتين الرايتين العملاقتين في حرب “طوفان الأقصى” وهو يظن أن ذلك سيشتت الصفوف، ويلقي الهزيمة في القلوب.  لكنه واهم من جهة، وقد يكون واهماً أو محقاً من جهةٍ أخرى، كما سنرى.  

فهو واهمٌ أولاً لأن الرمز، كشخصية عامة، لا يسقط إذا استشهد، بل يعطي المزيد من المصداقية لرمزيته، ويصبح بالتالي محركاً رمزياً أقوى للملايين، وإلا لماذا تحظر “ميتا” اسم القائد عز الدين القسام، الذي ارتقى عام 1935، حتى عندما لا يدور الحديث عن كتائب القسام، بل عن الشيخ عز الدين ذاته، وتجربتي الخاصة أن العقوبات في “فيسبوك” تكون أقسى وأشد عند تناول اسمه في منشور ما أو تعليق.  

الخطورة أكبر بكثير عندما يتساقط الرمز سياسياً، أو عندما ينحرف عما صنع رمزيته أساساً، مما هي عندما يستشهد.  فلا خوفٌ هنا من ناحية ما يمثله القادة الشهداء لدى الملايين، بل يصبح طاقةً إضافية لشحنها للنضال من أجل القضية التي استشهدوا فيها.  

ينطبق الشيء ذاته على المصطلحات التي يسعى العدو إلى إسقاطها عبر اختراقها بمعانٍ تخالف مضمونها، كما في محاولة جعل مصطلح “المقاومة” يعني مثلاً إسقاط العمل المسلح، أو “النضال من أجل إقناع المستعمرين المستوطنين بأن يقبلوا التعايش معنا في دولة واحدة أو دولتين”، أو إلباس التطبيع لبوس “مناهضة التطبيع”.

أما ما قد يكون العدو واهماً أو محقاً بشأنه، فهو الفراغ الذي يحدثه غياب الرموز الكبيرة في خضم المعركة عن الميدان هنا والآن، فمن سيحرك الملايين الآن، ومن سيوجهها، ومن سيحفظ الصفوف من التشتت، ومن سيضمن سلامة البوصلة (بلينكن زعم أن استشهاد السنوار يفتح الباب لحل مشكلة غزة)؟؟  

فإذا لم نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال عملياً، قد يصبح العدو محقاً، وإذا تمكنا من الإجابة عليه، فسيكون واهماً.

أقترح بكل تواضع أن الجواب يمكن ويجب أن نشارك جميعاً بوضعه، ونحن ملايين.  ولنتذكر قوله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.  فكيف نترجم ذلك عملياً، وخصوصاً في غياب القيادات الكبيرة؟

لنتذكر أن أمتنا ولادة، فإذا ارتقى قائدٌ شهيداً ينبري من الصفوف ألف مشروع شهيد ليحلوا محله، لكنْ لا يجوز أن ننتظر والمعركة محتدمة على الجبهات كافةً، وخصوصاً عندما يستطيع كلٌ منا أن يؤدي دوراً، مهما كان صغيراً، في الحرب على الجبهات “المدنية”، وأتحدث عن جبهتي الإعلام ووسائل التواصل تحديداً.

المستهدف الآن هو المعنويات، ومشروع العدو هو ضربها كي تعشش الهزيمة في النفوس وتتمكن منها.  وبناءً عليه، لا يجوز أن نسمح لذلك أن يحدث، بالرغم من الآلام والجراح.  وأقترح أن كلاً منا يستطيع ويقدر على رفع المعنويات ومحاربة التيئيس والإحباط والوقوف مع المقاومة صفاً كالبنيان المرصوص.

ربما تؤثر كلمتي في 3 أشخاص، وكلمتك في 10، وكلمة تلك الناشطة في 100 أو 1000، وكلمة تلك المنصة الإعلامية في 100 ألف أو مليون متابع، لا يهم، فإذا التزمنا جميعاً في لحظات الشِدة التي نمر بها بنهج رفع المعنويات ومحاربة الإحباط والوقوف مع المقاومة، ورفض تقديم أي تنازل نعلم جيداً أن أبا هادي أو أبا إبراهيم كان من المستحيل أن يقدماه، كلٌ بطريقته وبأسلوبه وبتعابيره، بكلمة، بصورة، بكاريكاتور، بفيلم، بقصيدة، بمقالة، أو أغنية، أو حتى بنكتة، أو ما تراه مناسباً، في الفضاءين الحقيقي والافتراضي، فإننا سنضع العدو أمام بنيانٍ مرصوصٍ لا يستطيع النفاذ منه عبر صفوفنا، وسنكشف له كم هو واهم.

عندما نتصرف بمنطق أن ارتقاء القادة العظام يزيد من حجم المسؤولية على عاتق كلٍ منا، وأن كل يوم هو 7 أكتوبر من جديد، سنكون قد أخلصنا لأسماء نقدرها عالياً ونعدّها بوصلة.

الكلام موجّه بالتحديد إلى المقاومين الإعلاميين وفي وسائل التواصل: الآن وقتكم، أكثر من أي وقتٍ مضى، وحتى إشعار آخر.

د.إبراهيم علوش