– منذ واحد وعشرين يوماً بدأ جيش الاحتلال عمليته البرية ضد المقاومة في جنوب لبنان بإعلان واضح، قال فيه إنه يبدأ عملية برية محدودة، وسرّب معلومات عن نيّته التوغل إلى عمق لا يتعدّى ثلاثة كيلومترات تحت شعار تأمين منطقة عازلة تمنع المقاومة من التمركز على خط الحدود بذريعة منع عمليات بناء أنفاق والتسلل منها لاحقاً في ظروف أسماها نية تصنيع حدث مشابه لما جرى في طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 في غزة، على أن يجري استثمار ذلك التمركز المحدود لفرض تفاوض على انسحاب المقاومة وسلاحها إلى ما وراء الليطاني، تحت عنوان وقف تهديد أسلحة المقاومة لمستوطنات شمال فلسطين المحتلة.
– لم يكن الكلام الإسرائيلي مقنعاً لأحد، لعدة أسباب بائنة وواضحة، أولها أن التمركز في شريط بعمق عدة كيلومترات ليس اسمه تمركزاً بل احتلال، وأن المقاومة لن توقف قتالها ولن يستطيع أحد مطالبتها بوقف القتال ما دامت قادرة على ذلك، لأن اللبنانيين الذي يختلفون مع المقاومة يسلّمون لها بحقها في القتال عندما يقع أيّ جزء من الأراضي اللبنانية تحت الاحتلال، بمشروعيّة سلاحها في هذه المهمة. وسوف يكون القرار 1701 الذي يتمسك به اللبنانيون وينصّ على انسحاب الاحتلال حتى حدود لبنان المعترف بها دولياً في صف المقاومة وقتالها، ولن يجد الكيان في الظروف الدولية الجديدة فرصة البحث بتعديل القرار 1701 من فوق، أي عبر ترتيبات في مجلس الأمن تتجاهل موقف لبنان.
– السبب الثاني لهشاشة الكلام الإسرائيلي وعدم إقناعه أحداً، هو أن سلاح الصواريخ والطائرات المسيّرة لدى المقاومة، كما قالت استخداماته في هذه الحرب قادر على الوصول إلى عمق الكيان من خارج منطقة جنوب الليطاني، بل ومن خارج أبعد من ذلك بكثير، هذا إضافة إلى أن التفاوض على هذا الإبعاد الذي فشل في حرب تموز 2006 يستدعي نجاح الاحتلال بتحقيق انتصار عجز عن تحقيقه في 2006. وما دامت المقاومة تواصل القتال في منطقة الحدود منعاً لاستمرار الاحتلال في أيّ جزء من هذه المنطقة، فإنّه سوف يكون على الاحتلال لفرض استقراره من جهة وفتح التفاوض على توسيع نطاق إبعاد المقاومة عن الحدود، أن يفعل ذلك بالقوة، أي أن يقوم باجتياح المنطقة الممتدّة من الحدود حتى نهر الليطاني على الأقل.
– السبب الثالث للقناعة بأن قيادة الكيان وجيشه يكذبان هو أن ما تمّ حشده من فرق عسكريّة للعملية التي وصفت بـ المحدودة هو أكثر مما حُشد في حرب تموز 2006 التي وضع لها هدف هو سحق المقاومة، وتعادل ما حشده الاحتلال في اجتياح لبنان عام 1982. وهذا الحشد يؤكد أن العملية البرية واسعة النطاق بحجم ضخامة الحشود التي بلغت في يومها الأول ست فرق تعادل قرابة 90 ألف ضابط وجنديّ، من بينها كل ألوية النخبة. وهذا يعني أن الحديث عن عمليّة محدودة كان يهدف فقط إلى تهدئة الأجواء الدولية التي لن تستطيع تغطية اجتياح كبير، ومخاطبة الداخل اللبناني لعدم استنفار الجو السياسي ضد الكيان، لكن الهدف الأساسي كان التحسّب للفشل، من خلال القول إن الإعلان في الأساس كان عن عمليّة محدودة.
– أما وقد مضت على العمليّة ثلاثة أسابيع شهدنا خلالها عشرات محاولات الاختراق الفاشلة، على عدد من محاور التقدّم المفترضة، خصوصاً مناطق التلال المرتفعة الحاكمة كرؤوس جسور للاجتياح البريّ، وخسر الاحتلال فيها مئات الجنود قتلى وجرحى وعشرات الآليّات منها قرابة خمسة وعشرين دبابة ميركافا، وكانت معركة مثلث راميا عيتا الشعب القوزح أهمها، فقد صار على قيادة جيش الاحتلال أن تتساءل عن فرص الفوز بهذه العمليّة البريّة، وعن المأزق الذي وضعت قواتها فيه، بين حدّي مواصلة المحاولات الفاشلة، أو التسليم بالعجز عن الاختراق، خصوصاً أن المقاومة نجحت بتسديد ضربة قاتلة للواء جولاني باستهداف مقرّ قيادته الخلفية في قاعدة بنيامينا بطائرة مسيّرة دقيقة دخلت إلى غرفة الطعام وحصدت قرابة المئة إصابة بين قتيل وجريح، بعدما كانت معركة مثلث القوزح راميا عيتا الشعب قد حصدت من قوات اللواء نفسه عدداً مشابهاً، وكانت الأيام العشرة الأولى من المواجهة قد حصدت في صفوف وحدة ايغوز التي تمثل نخبة النخبة في لواء جولاني، ضعف هذا العدد بين قتيل وجريح خلال محاولات التسلل إلى مارون الراس والعديسة وكفركلا ويارون.
– وصل جيش الاحتلال إلى نقطة فاصلة في الحرب البريّة، قد يستطيع خلالها تكرار محاولات إحداث الاختراقات لأيام إضافية، ولكن الأكيد أنه سوف يحصد نتائج مشابهة لما قالته الأيام التي مضت، وعندها على قيادته أن تقرّر أحد خيارين، الأول وقف العملية البرية، وهذا تسليم بفشل أكبر من العملية البرية، لأن هذه العملية جاءت كردّ على فشل الضربات التي استهدفت المقاومة، وحزب الله في قلبها وعلى رأسها، في إيقاف تساقط الصواريخ على شمال فلسطين، وخير تعبير عن الفشل البرّي اليوم هو تصاعد حجم ونوع ومدى الصواريخ والطائرات المسيّرة التي تسدّدها المقاومة إلى عمق الكيان وليس إلى الشمال
فقط، وآخرها كان طائرة مسيّرة أصابت منزل رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، والخيار الثاني هو الانتقال دون توفير مقدّمات النجاح لبدء عملية برية أوسع، تعرّض ألوية الجيش ومدرعاته لخسائر هائلة، كما كان الانتقال من عمليات التسلل والاستهداف النقطويّة في المواقع الأمامية إلى محاولات الاقتحام العرضية كعملية التقدم على مثلث القوزح راميا عيتا الشعب وما نتج عنها.
– التغطية بالنار على المأزق والتهرّب من الاستحقاقات التي يفرضها، قد تنفع لساعات لا تلبث أن تمرّ وتعود الأسئلة عن مصير العملية البرية طالما أن الصواريخ والطائرات المسيّرة ما زالت تصل وتصيب وتحقق أهدافها في عمق الكيان، ويزداد معها الشعور بفقدان الأمن بين المستوطنين وزيادة أعداد المهاجرين، الذين اتخذت العملية البرية من إعادتهم شعاراً لها، ومثل ذلك سوف يكون الحال بوهم التغطية على المأزق بتسريع الاعتداء على إيران، رغم أنه غير مضمون النجاح ولا مضمون القدرة على التعامل مع نتائجه. وهذا قد ينفع بنقل الضوء عن المأزق لساعات وأيام ثم لا يلبث السؤال ويظهر مجدداً: هل يملك الكيان وصفة لتغيير مسار العملية البرية من الفشل إلى النجاح والخروج من مأزق الخيارات الصعبة والمرّة؟
ناصر قنديل